انحبست دموع الغيمة السوداء، فحزنت وخَمُلَتْ. وتقيّدت حركتها، لم تعد تنظر بعينيها الصّافيتين الكبيرتين إلى الحقول الخلاّبة وتشتمّ بمتعةٍ روائح أشجار الكالبتوس والصنوبر وشذا ثمارها. صارت كئيبة، كرهت الأرض والروائح النتنة والقلوب القاسية؛ جرّت الغيمة أشلاءها وتكوّرت بعيداً جدّاً في السّماء السابعة الطّاهرة، لتستجمّ. احتجبت عن الأدران، وأغمضت عينيها لتسترجع دموعها، لتَسعد الأرض والأزهار والأشجار وترقص الكائنات وتُزاح الهموم وتطرب القلوب، فتفرح الغيمة ويأتي الخريف. يسيل دمعها فتتعاقب الفصول بانتظام، ويتمشّى قوس قزح بألوانه السبعة، يده في يد الشمس، والحب يلوّح لهما بجناحيه الكبيرتين.
وقفت ملكة النحل أمام مرآتها تتجمّل. فجأةً، طرقت بابها عاملاتٌ، طلبنَ مقابلتها حالاً، فسمحت لهنّ وهي مستغربة. تقدّمت العاملة الحكيمة وقالت بصوت تُقَطّعه الغصّةُ: "أيّتها الملكة، الخليّة فارغة من العسل، والعاملات متكدّرات، فهنّ لم يتعوّدن البطالة".
تساءلت النحلات: كيف سنسترجع الغيمة، ونُرجع عقل الفصول؟
تعجّبت الملكة: "لم أفهم! إذا كنّ يفضّلن العمل الدؤوب، فما الذي يمنعهنّ؟ أرض الله واسعةٌ عامرة، وفي كل نبتة رحيق مميّز يحوّلنه بسهولة إلى عسل لذيذ".
- "هنا المشكل أيتها الملكة"
قاطعتها غاضبة: "انطقي!"
ارتجفت العاملة: "أيتها الملكة، الأرض جافّة والأزهار ذابلة والأشجار جرداء".
- الملكة: "ماذا تقولين؟ متى حصل هذا؟
- النحلة: "انحبست دموع الغيمة فعطش الكون"
زعقت الملكة: "اجتماعٌ طارئ! الأمر خطير، فالهلاك قادم".
بعد ساعة، اجتمع الجنود ورؤساء الخلايا والعاملات أمام منصّة الملكة. بعد النقاش والمداولات، أمرتهم بالانتشار، ثمّ استدارت، فخلّفت وراءها ضباباً كثيفاً.
فوق النخلة، نام قوس قزح نوماً عميقاً؛ وصل شخيره أسماعَ الكائنات البحريّة، فانزعجوا وطلبوا من الله ملكِ السماوات والأرض إسكاتَه.
تثاءب قوس قزح لمّا دُعيَ للاستيقاظ والكفّ عن الشخير؛ تململ، تمطّى، فتح ذراعيه وحرّكهما يمنة ويسرة، رمّش جفنيه ببطء شديد ثم هبّ واقفاً وكأنّ أحدهم قد وخزه. قال بصوت متلعثم: "ماذا حدث؟ هل نمتُ كثيراً؟".
سمعته الريح فاقتربت منه غاضبة: "ما هذا النوم الثقيل الذي كتَمَ على أنفاسك فأخّرك وحدثت أشياء كثيرة وغريبة وأنت تشخر كمنطاد أهمله صاحبه؟".
قال قوس قزح: "كُوني رحيمةً، أرجوك، لا تحمّليني أوزاراً لا طاقة لي بها!".
قالت الريح: "تُخطئ ولا تعترف بذنبك".
حزن قوس قزح وأخبرها بمرارةٍ أنه لا يستيقظ إلا على رنين قطرات المطر فوق الكون، "فالرنين ينبّهني وتوقظني أصوات الكائنات المستحمّة بالغيث النافع، البهجة تنشّطني فأقفز بأرجلي السبعة وأرفرف على الكون". لم تقتنع الريح، فغمغم قوس قزح: "أنت ظالمة، أنا خُلقتُ من أجل الحياة والجمال والإبداع".
فكّرت الريح وقرّرت البحث عن الغيمة. أمسك قوس قزح بيدها وطارا معاً. سمعا طنيناً قويّاً، فتمهّلا وشاهدا جحافل النحل المنهَكة، ولمّا اقتربت النحلات أخبرتهما بما جرى وأبلغتهما أوامر الملكة. أدرك الجميع حجم الخطر. فتنقّلوا بين السماوات السّبع حتّى وجدوا الغيمة متكوّرةً في جنان السماء الطّاهرة. اقتربوا منها، لاطفوها، دغدغها النحل، فلم تضحك، رقصت لها الريح، فلم تتحرك. فجأةً، أخبرتهم الرّيح بصدى آهات الغيمة وانزعاجها من الأدخنة والأوساخ منذ أن صارت الأرض مزبلةً كبيرة وتداخلت الفصول ثم جنّت.
تساءلت جحافل النحل: "كيف سنسترجع الغيمة، ونُرجع عقل الفصول؟". نطقت الريح: "وجدت الحل. نكتب رسائل للبشر، فما نفع عقولهم إذا لم يستخدموها لإنقاذ الكون من الهلاك؟".
علِمت البحار والمحيطات بالخبر، فجهّزت خطّةً أخرى تحسّباً.
* كاتبة من تونس