في مطلع الثمانينيات، ظهر العدد الأوّل من مجلّة "غلغامش" التي أصدرتها "دار المأمون للنشر والترجمة" في بغداد باللغة الإنكليزية، كفصلية تُعنى بنشر الأخبار والمقالات والدراسات الثقافية والمعرفية، ونشر دراسات وإسهامات أجنبية في حقول الترجمة والنشر والتعريف بها محلّياً.
وقبل أيّام، صدر العدد الرابع من المجلّة، وهو العدد الفصلي الأخير لسنة 2023، وقد خُصّص لـ فلسطين والقضية الفلسطينية.
تحت عنوان "المسرح العراقي والقضية الفلسطينية"، تناولت رئيسة تحرير المجلّة، سناء محمد المشهداني، تجلّيات القضية في المسرح العراقي تاريخياً، وسرعة استجابة المسرحيّين العراقيّين للقضايا الوطنية والعربية، ومثال ذلك "فرقة الزبانية المسرحية" التي قدّمت عروضاً في الجبهات خلال حرب 1948.
وتُشير المشهداني إلى حدوث تحوُّل درامي عقب صدمة حرب عام 1967، حيث بلغ المسرح ذروة الكوميديا السوداء. وفي هذا السياق، قدّم المسرحي العراقي جاسم العبودي مسرحيّتَي "الطريق" و"ترفيه المساء للخامس من يونيو"، اللتين تناول فيهما القضية الفلسطينية بطريقة لاقت صدىً واسعاً وشكّلت علامة فارقة في مقاربة القضية على المسرح.
وتلفت الكاتبة، في مقالها، إلى توظيف المسرحيّين العراقيّين قصائدَ المقاومة الفلسطينية في أعمالهم؛ مثل قصائد إبراهيم طوقان، وسميح القاسم، ومحمود درويش.
وضمّ العدد، في مقدّمته، جرداً للأنشطة الثقافية المتعلّقة بغزّة، التي بدأت بعد أيّام قليلة من "طوفان الأقصى" ولا تزال مستمرّة إلى الآن؛ من أمسيات شعرية ومعارض كُتب وتشكيل وندوات فكرية تناولت تداعيات العدوان على المدنيّين والبنى التحتية وأمسيات خُصّصت للتراث الموسيقي الفلسطيني.
وعرض المُترجم العراقي عبد الواحد لؤلوة (1931) كتاب "ثلاثة عوالم: مذكّرات يهودي عربي" للمؤرّخ آفي شلايم؛ أحدِ "المؤرّخين الجدد" اليهود الذين طرحوا تفسيرات نقدية لتاريخ الصهيونية و"إسرائيل". وُلد شلايم في بغداد، ثمّ هاجر إلى "إسرائيل". وفي كتابه هذا، عبّر عن خيبة أمله في الصهيونية ومحاولته اليائسة في التماهي معها دون جدوى.
واستذكر العددُ مقالاً للفنّان العراقي رافع الناصري (1940 - 2013)، بعنوان "المعرض الدولي من أجل فلسطين" بترجمة يوسف الورد، الذي كان قد نشره ضمن كتاب "آفاق ومرايا: مقالات في الفن التشكيلي" (2005)، وتناول فيه دور الفنّانين العراقيّين في تطوير الملصق الجداري العربي خلال ذروته في الستّينيات والسبعينيات من القرن الماضي، واهتمامهم خصوصاً بالملصقات السياسية وما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
وذكر الناصري في مقاله أنّ كلّ حدث فنّي أو ثقافي أو وطني في العراق كان لا بدّ أن يتضمّن ملصقات تتعلق بالقضية الفلسطينية؛ حيث استُخدمت الملصقات كوسيلة لنشر الوعي الثقافي والسياسي. وقد أنتج الفنّانون العراقيون جزءاً كبيراً من هذه الملصقات ردّاً على مجزرة تلّ الزعتر، وأعلنوا احتجاجهم من خلال ملصقاتهم التي قدّموها في معرض خاص أُقيم في بغداد عام 1976.
لم تكن القضية الفلسطينية تغيب عن أيّ مناسبة ثقافية أو وطنية في العراق
ولم تغب عن العدد علاقةُ فلسطين بالراوئيّين العراقيين، وهذا ما تناوله الكاتب باسم عبد الحميد في مقاله "فلسطين في الرواية العراقية"، بترجمة جاسم الغيدان؛ حيث اعتبَر فيه أنّ المثقّفين العراقيّين الذين شاركوا في حركات المقاومة وتضامنوا معها هُم جزء من التجربة العراقية النضالية من أجل فلسطين، وهو ما انعكس على سردياتهم في ما بعد، حيث تعمّق الكتّاب العراقيّون في توظيف القضية الفلسطينية في نصوصهم، وهو ما يتوافق مع المبادئ العامّة للنضال الوطني.
يشير الكاتب إلى أن حرب حزيران/ يونيو 1967، أثّرت كثيراً في مسار السرد العراقي في القصّة القصيرة، وبنحو أكثر في الرواية، ويسوق على ذلك أمثلة عديدة؛ مثل: "الرجال يبكون في صمت" (1969) لعبد المجيد لطفي، الذي رسم فيها لوحة عن رفض ما حدث حينها، بينما عكست رواية "المدينة تحتضن الرجال" لموفّق خضر آثار العدوان الثلاثي على مصر.
ويذكُر عبد الحميد، في مقاله، العديد من الروايات العراقية التي صدرت في فترات زمنية مختلفة؛ مثل "هناك في فجّ الريح" لعبد الرحمن الربيعي، و"حمام اليهودي" لعلاء مشذوب، و"المغارة والسهل" لزهير الجزائري.
ولم يغب الشعر عن العدد؛ فقد تضمن ترجمةً لقصيدة "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" لمحمود درويش بتوقيع إنعام جابر، وثلاث قصائد لشاعرات عراقيات: "غاضبة" لدلال جويد بترجمة منى العلوان، و"انتفاضة" لأليس الآلوسي، و"الأمومة في خطر" للميس العذاري. واختتم العدد بقصّة "بط أبيض صغير"، للكاتب المصري أحمد الخميسي بترجمة منى العلوان، وقد أهداها مؤلّفها إلى أطفال فلسطين.