فخري قعوار: المثقف المشتبك في زمن الأحكام العرفية

10 أكتوبر 2024
فخري قعوار (1945 - 2024)
+ الخط -

ينتمي الكاتب الأردني فخري قعوار (1954 - 2024)، الذي رحل أول أمس الثلاثاء، إلى تيار الواقعية في كتابة القصّة القصيرة الأردنية بدايات الستينيات (وإن نشَر بضعة نصوص في نهاية الخمسينيات) الذي تبنّى قضايا اجتماعية وسياسية، ضمن تفاوتات في القدرة على تفكيك الواقع وتحليل بنيته، وفي المستوى الفنّي أيضاً.

في ذلك المشهد الذي تداخل في تأسيسه كتّاب سردٍ من الأردن وفلسطين من أمثال خليل السواحري ومحمود شقير وسالم النحاس وآخرين، اقترب قعوار أكثر من تفاصيل الحياة اليومية لدى معظم فئات المجتمع المهمّشة، ساعياً إلى رسم شخصيات حقيقية من لحم ودم والبحث عن حدثٍ يتماهى مع وقائع عاشتها وتعيشها تلك الفئات، مع نزوع نحو مثاليةٍ ما فرضتها توجّهاته القومية واليسارية.

تكرّست واقعية صاحب "لماذا بكت سوزي كثيراً" (1973) مع انخراطه المبكر في الكتابة الصحافية، ضمن رؤية حكمت كتابة المقال والقصّة القصيرة كذلك، حيث الكتابة تحمل وظيفة أساسية تتمثّل في التعبير عن هموم الناس البسطاء وحقوقهم التي انتهكتها السلطة، والانحياز إلى الحرّية التي ارتبطت بأفكار مسبقة في معظم نتاجات القاصّين العرب خلال الستينيات والسبعينيات، والتي صُنّفت تحت يافطة "أدب الالتزام".

وظيفة الكتابة الأساسية لديه هي التعبير عن هموم الناس

الارتباط بالصحافة قاد قعوار إلى كتابة مقالات ساخرة تعتمد الشكل القصصي عُرفت في مرحلة الأحكام العرفية التي فُرضت في الأردن بين 1958 و1989، واعتمد في كتابتها على بناء شخصيات ستنمو وتتطوّر استجابةً للظروف السائدة آنذاك، وستُلازمه في عدد من النصوص التي جمعها في كتابه "يوميات فرحان فرح سعيد" (1982) والذي حُوّل إلى مسلسل تلفزيوني.

وربما ليس غريباً أن تتحوّل تلك القصص إلى الدراما، كونها اتّكأت على مفارقات البطل "فرحان" الذي يعرّي تناقضات المجتمع، من خلال مجموعة مشاهد تميل نحو المبالغة والتهكّم الذي يطاول كلّ شيء، ومنها حوارٌ دار بين فرحان ووالده، حيث أخبره الأوّل أنّه "لم يعد أمامه سوى حلّين: إمّا الزواج وإمّا الانتحار!"، ليردّ عليه الوالد بأنه أجرى عملية حسابية بسيطة فخلص إلى القول: "لقد حسبت ووزنت الأمرين، ووجدت أن انتحارك سيكون أرخص وأفضل بكثير من زواجك".

فرحان هو نموذج يمثّل جميع الطبقات المسحوقة يروي غرائب العيش وعجائبه منذ الطفولة حتى دخوله مستشفى الأمراض العقلية، وليس غريباً أن قعوار وفرحان يتشابهان في تفاصيل عديدة، سواء في دراسة اللغة العربية والعمل في التدريس، أو في النظرة إلى مسائل عديدة في مقدّمتها السخط من الأحوال المعيشية المتردّية التي تتحمّلها سياسات الحكومة.

لم تنفصل تجربته السردية عن رؤيته وقناعاته التي آمن بها

جزء كبير يهيمن على مونولوغات فرحان يتّصل بقمعه، وعدم قدرته على التعبير عن نفسه، وهي ثيمة عبّر عنها في كثير من قصصه، تُضاف إلى دفاعه الدائم عن حقوق المرأة التي تتعرّض إلى ظلم وتهميش كبيرين، خاصة من قبل المثقف العربي الذي يعاني من فصام واحد؛ فهو ينحاز ظاهرياً للنساء، لكنّه يُمعن في انتهاك حقوقهن.

لم تنفصل تجربة قعوار السردية عن رؤيته وقناعاته التي آمن بها، كما تبلوّرت في الثمانينيات مع تراكم إصداراته في القصّة بمجموعات: "ممنوع لعب الشطرنج" (1976)، و"أنا البطريك" (1981)، و"البرميل" (1982)، و"أيوب الفلسطيني" (1989)، حيث التزامه بقضايا العدالة والديمقراطية والتنوير التي يعبّر عنها "المثقّف الملتزم" بكتابته الصحافية والأدبية، وحتى في كتابته للطفل ضمن مجموعة بعنوان "من الفراشة الملوّنة إلى الطيور المهاجرة" (1980) أو مسرحية "وطن العصافير" (1993)، أو في المواقع التي شغلها رئيساً لــ"رابطة الكتّاب الأردنيين" لأربع دورات متتالية، وأميناً عامّاً لـ"الاتحاد العامّ للأدباء والكتاّب العرب" لستة أعوام.

وبالطبع لا يمكن إغفال بلاغته اللغوية ونقده السياسي بأعلى سقف في خطاباته التي ألقاها تحت قبّة البرلمان الأردني حين انتُخب نائباً عام 1989، خاصّة ضدّ رئيس الحكومة المكلّف آنذاك مضر بدران (1934 - 2023)، منتقداً الإتيان بضابط مخابرات ومدير جهاز أمني ليقود مرحلة "الانتقال الديمقراطي" في الأردن، إضافةً إلى تركيزه على الفساد وسوء الإدارة.

برز فخري قعوار كاتب قصّة كلاسيكياً ومشتبكاً مع الشأن العام. ربّما لم تتطوّر كتابته وظلّت أسيرة زمن قديم، وكذلك لم يتغيّر منظوره في تحليل السياسة والمجتمع، لكنه سيبقى اسماً يعبّر عن مرحلة مرّ بها الأردن ولم يُنشر عنها سوى القليل ممّا يستحق القراءة والتأمّل.

موقف
التحديثات الحية
المساهمون