لماذا استعملت العلامات المائية، وما هي معاني هذه العلامات؟ ولماذا استعملت علامات محددة من طرف مؤسسة معينة لصنع الورق؟ عدّة تساؤلات حاولت الباحثة الجزائرية فطومة بن يحيى الإجابة عنها في محاضرة افتراضية نظّمتها "مكتبة قطر الوطنية" في الدوحة عند الرابعة من مساء أمس الاثنين بعنوان "العلامات المائية: دلالاتها وأشكالها وتصنيفها وأماكن تواجدها على سطح الورقة".
عادت المحاضِرة إلى تعريف عالم المخطوطات السويسري شارلز مويز بريكيه الذي يقول إن "العلامة المائية هي بصمة تُركت في مكان أجوف داخل عجينة الورق من خلال زخرفة بالأسلاك المعدنية، ملحومة بالشكل أو بأسلاك القالب، تظهر شفافة في الضوء على الزاوية أو المساحة الأغمق في الورقة"، وكذلك إلى تعريف نظيره الفرنسي جان إريغوين الذي يرى أنها "الأثر الذي يتركه السلك المعدني، مشكلاً رسماً معيناً مثبتاً بصفة عامة في وسط الورقة، ويكون في بعض الأحيان مربوطاً، وفي حالات أخرى ملحوماً على الشبكة (القالب) المتشكلة من الأسلاك النحاسية والمسطرة المعدنية أو الخشبية، ويمكن أن يكون ملحماً بسلك إضافي يوضع بين أسلاك المسطرة المعدنية".
أصل العلامة المائية يبقى غامضاً، وما وصل إليه الباحثون حول دلالاتها هي مجرّد فرضيات
ولفتت بن يحيى إلى إجماع الباحثين على أن "أصل العلامة المائية يبقى غامضاً"، وما وصل إليه الباحثون مجرّد فرضيات، وما هو مؤكّد أن العلامة المائية لم تكن موجودة قبل القرن الثالث عشر الميلادي، لا في الشرق ولا في الغرب، وأن أقدم علامة استعملت كانت صليباً يونانياً في إيطاليا عام 1282، موضّحة أنه ليس هناك اتفاق على الهدف من استخدامها، وأنه لا إجابة عن التساؤل الآتي: لماذا يقوم مصنع أو ورشة معينة باختيار علامة مائية محددة دون غيرها من العلامات؟ حيث يختلف الأمر بحسب الفترة الزمنية وبحسب البلد.
من بين الدلالات المفترضة، وفق بن يحيى، الدلالات الدينية، حيث الأجواء الروحانية في أواخر العصور الوسطى أدت إلى نشوء العديد من الطوائف المتزمتة، وكانت حرفة صناعة الورق أكثر تطوراً عند الهيئات الدينية، وهي طوائف مسيحية هرطقية ظهرت في جنوب فرنسا خلال القرن الثاني عشر، وكان أصحاب المصانع الذين ينتمون إلى الطوائف يستخدمون علامات تحمل في طياتها معاني ورموزاً سرية، ومن الفرضيات في هذا السياق أن علامة "الثعبان يقضم ذيله" ترمز إلى الحكمة الأبدية، وعلامة "الديك" ترمز إلى الفجر، وعلامة "الأيل" ترمز إلى الروح المسيحية.
كذلك نبّهت المحاضِرة إلى فرضية دلالات الجودة، حيث العلامة المائية يراها بريكيه ليست إلا علامة تجارية كان الهدف منها التعريف بمصنع الورق، ثم بمطاحن الورق، وبعدها استخدمت للدلالة على المنطقة أو المقاطعة التي صُنع فيها الورق، وقد أصدرت إيطاليا عام 1340 قانوناً لحماية منتجات المطاحن، فاستخدمت العلامة المائية كرمز لجودة الورق، لكن عدد هذه العلامات وصل إلى مئة وخمسين ألفاً في مطلع القرن السابع عشر، وهنا يمكن أن ندرك أن رمز الجودة أصبح مجرّد وهم.
أما ثالثة هذه الدلالات، بحسب بن يحيي، فهي دلالات المصدر. إذ استخدمت العلامة المائية للتمييز بين المصنّعين أنفسهم في إطار المنافسة، ورابعتها هي الدلالات الزمنية مع وجود علامات مائية تشير إلى سنة الصنع، وأقدم هذه العلامات تعود إلى عام 1655 م، وخامستها كانت دلالات تقنية تتعلق بمعرفة حجم الورق أو مقاساته، وسادستها دلالات فنية تميّز بين الفنانين الذين امتهنوا صناعة الورق منذ القرن الرابع عشر.
واستعرضت أيضاً تصنيف العلامات المائية إلى أربعة عشر صنفاً، وظلّت تُحدث حتى أصدرت "الجمعية الدولية لمؤرخي الورق" المعيار الدولي لتسجيل الورق المتضمّن علامة مائية أو بدونها عام 1997، كذلك صدرت تحديثات جديدة عليها عام 2012.
وفي محاضرة سابقة نظّمتها "مكتبة قطر الوطنية" تحت عنوان "العلامات المائية أداة لمعرفة عمر المخطوطات" في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أشارت بن يحيى إلى أن الصينيين أوّل من صنّع هذه المادة في القرن الأول الميلادي، وربما قبل قرنين من ذلك، ثم تعلّم المسلمون صناعته عندما أسروا صينيين في مدينة سمرقند، بينما استعار المسلمون العلامات المائية من الغرب خلال القرن الثالث عشر ميلادي.
وأوضحت أيضاً أنه قبل ظهور هذه العلامات ظهرت خطوط مائية عند العرب في القرن السابع الهجري، واستعملها المسلمون خاصة في بلاد الشام، وهي التي أوحت إلى الأوروبيين لاحقاً بوضع علامة مائية في صناعة الورق، وقد وُضعت أساساً لتمييزه عن الورق الإسلامي، ويمكن رؤيتها من خلال الضوء فقط.