على عكس انطباعاته العامة عن مناظر الجزائر، يبدو فلوبير مأخوذاً بتفاصيل الأمكنة التونسية، حتى أنه لم يكن يستطيع أن يسترسل في وصف مشاهداته نظراً لكثافة التفاصيل وتنوّعها، ولذلك تجده يكتفي بإشاراتٍ وإلماحاتٍ صغيرة، محاولاً قدر ما يستطيع تجنُّب البشر، وربما هذا التجنّب بسبب الهدف الأساس من رحلته، وهو تمثّل المنطقة التي سيكتب عنها روايته التاريخية "سلامبو" التي تستعيد حياة قرطاج.
وهذه الملاحظات صدرت، كما قلنا سابقاً، في كتابه الضخم المعنون بـ"مراسلات"، والتي نقلها إلى العربية قبل عقد من الزمن الباحث فريد زاهي، وصدرت بعنوان "رحلة إلى الشرق: فلسطين ولبنان وقرطاج"، عن دار "الكتب الوطنية" في أبوظبي.
يتذكّر فلوبير مصر فور دخوله من مضيق حلق الوادي، فالأرض واطئةٌ والجدران بيضاء، وثمّة الأزرق الأزرق، واللون الأصفر للبحيرة يذكّرُه بنهر النيل، حتى "فندق فرنسا" في أحد الأزقّة يذكّره بـ"فندق النيل". في الحي العربي، كما يسميه، يرى رجلاً نحيفاً يرقّص ثعابين وأمامه لاعب طبلة ونافخ مزمار وطفل يتقافز.
يعود فلوبير للمقارنة من جديد بين حقول الزيتون خارج تونس وبعض أراضي فلسطين. "في الخلفيّة ارتفاع جبال زرقاء، بساتين الزيتون وأشجار خرّوب هائلة، أسيجة من الصبّار حيث صارت الأوراق الشائخة عبارة عن أفنان".
ويتابع كأنه يكتب قصيدة: "نزلتُ نحو المرسى. منزلان أحمران في العمق يميناً، جِلت في الميناءين، التلّة مليئة بشقائق النعمان المتناثرة وسط حقول القمح الأخضر، وكذا بزهور صغيرة صفراء. الأسوار النازلة نحو البحر أشبه بالفواصل، ما الغرض منها؟ المطر، صهاريج ماء، وشيخ عجوز متلفّع على شاكلة تمثال".
موسيقيون وكراكوز متهتك
ويصفُ لنا جلسة في مقهىً فاخر: "ثمّة مقعد طويل جنب كلّ حائط. وفي الوسط منصّة طويلة. ثلاثة موسيقيين يهود: أعمى يعزف على آلة الماندولين، أنفه معقوف، أعمى ويتمايل برأسه باستمرار مثل فيل! وواحد شاحب السِّحنة، ذو جبهة عريضة، يعزف على ما يُشبه كماناً لا جسم له، ورجل ضخم الجثّة يضرب على طبلة باسكيّة. صبي في الثانية أو الثالثة عشرة، ببذلة في لون نبيذ إسبانيٍّ، مثقوبة في المِرفق كان يعزف على الماندولين بريشة طائر. على الحائط صورة بالطباعة الحجرية ملوّنة تُمثِّل امرأة، وصور مناورات عسكريّة، وفي الخلفية أسدان ضخمان يُخرجان لسانيهما، المتفرّجون جامدو الملامح. رائحة التبغ، وعبق المسك والبخور يملآن المكان".
يصادف فلوبير قبالة القصبة في مدينة تونس كراكوزاً ذا حدبة، ولِباساً يُشبه اللباس الإسباني. ثم يرى كراكوزاً آخر هو ورفيقه السيّد كراف بدا أفضل من السابق، ويصف لنا المشهد: "في قاعة ضيّقة وطويلة مختنقة بالناس، كان عرب متزاحمون على مقعدين، في أعلى المسرح، رجل يصنع السِّلال، وأحمد خادم السيد كراف، الذي صعد هُناك بمساعدة مِجثَم. لم يكن بعد شيء يظهر من وراء الشّفاف، وبين المقعدين في الممرّ الضيّق الذي تركه الزحام، كان رجل يمشي بإيقاع، رافعاً رُكبتيه عالياً، أو يرقص من غير أن يحرّكهما، مُحرّكاً ردفيه على الطريقة المصرية، لكن من غير أن يُتقنها. ما كان جميلاً هم الموسيقيّون الثلاثة الذين كانوا من وقت لآخر، وبفواصل منتظمة، يردّدون ما يُشبه اللازمة، أو أنّهم كانوا يفكّرون بصوت جهوري على طريقة الجوقة. كان ذلك ذا طابع درامي، ويبدو أنّني فهمت. أمّا الكراكوز فذكره كان يُشبه عموداً، وهو ما يجعل الأمر في النّهاية لا يتّسم بأّي طابع فاحش، ثمّة العديد من الكراكوزات. وأعتقد أنّ هذا النوع في حالة انحطاط، إذ يتعلّق الأمر فقط بإبراز أكبر عدد من الذكور. وأكبرها كان له جلجل بحيث عند أيّ حركة انثناء للأرداف كانت تجلجل، وهو ما كان يُثير الضحك. يا لها من فرجة بائسة في نظر إنسان ذي ذوق رفيع، بل في نظر رجل ذي مبادئ".
قصر الباي
ينتقل فلوبير بعد ذلك لوصف قصر الباي فيقول: "لا شيء أروع من البهو المزوّق بالعصابات السوداء على خلفيّة المرمر الأبيض. وفوق، ثمّة زخارف من الجبس. وحيطان الغرف مزيّنة بمربّعات الفسيفساء الصغيرة. ولا مربّع واحدا مليئا بالزخارف يُشبه الآخر، وأحياناً تتشابه المربّعات المتقابلة. أمّا السقوف فرائعة بنقوشها وتزاويقها الخضراء والزرقاء والذهبية". ويرى أن الأثاث والتصاوير الحجرية المعاصرة تنتهك "حرمة هذه المفخرة من مفاخر العمارة العربية".
يتابع الروائي الفرنسي، بأسلوب أدبي رفيع، رصد تفاصيل التفاصيل في العمارة التي يراها في تونس والضواحي والقرى المجاورة لها، قبل أن ينتقل لوصف آثار مدينة أتيكا (عتيقة) التابعة لبنزرت: "ثمّة حُطام منازل لا شكل لها. رُكام كبير من الأحجار كما لو أنّ زلزالاً شتّتها هناك. وعلى يسارنا ينغلق التلّ في انحناء، بلغنا قمّة السّرك قرب قنوات الماء. صهاريج الماء تشبه في البنيان صهاريج قرطاج، نصفها تحت الأرض. الوجه الشرقي للأطلال الكبرى ينظر لفضاء نصف دائري ربّما كان هو المسرح. والساحة بُنيت في المدخل الغربي من السّرك الروماني الذي غاب كلّياً تحت الأعشاب".
أطلال قرطاج
وأخيراً يصل إلى قرية سيدي بوسعيد، وهي الموقع الأثري لمدينة قرطاج الأثرية حيث يقول: "وأمامنا رأس حلق الوادي. قرطاج بكاملها توجد تحتنا، بيوت بيضاء، ساحات خضراء عبارة عن حقول من القمح. في الغرب، هُناك السّهل الممتدّ نحو مدينة تونس. وفي اليسار رأس قمرت، خليج وجبال واطئة في التحت، وفي الشمال ثمّة عرض البحر".
يبدو فلوبير مشغولاً بتأمّل المكان وتفاصيله الجغرافية، فهو سيكون معين تخيلاته الروائية حين يشرع بكتابة رواية "سلامبو"، ولذلك تجده يقول: "من جبل سيدي بوسعيد، وظهري مُدار لبيت خازندار، في المكان الذي يؤخذ منه الطين الأحمر من على تلّة قبالة المرسى، ثمّة منبسط، ومضيق، وخضرة، وبيوت بيضاء، ثمَّ جبل الكرم، وفي اليمين ممرّ الكرم، مع القمّة التي تغلق خليج المرسى. ومن وراء جبل بورتوفرينا، وفي لون رمادي وضبابي بصفائح بيضاء، ثمّة منحدر الممرّ الجبلي بلونه الرمادي الماثل للوردي. وقُربي على اليمين، المنحدر وقرية سيدي بوسعيد، وفي اليسار، في العمق جبل ضبابي وأزرق مائل للرمادي، والسّبخة، والرمال، ومنبسط يكاد لا يَبين. وأنا أتأمّل سان لويس في المقابل ثمّة منبسط، وسان لويس بعده، وعلى اليمين خليج تونس، وعلى اليسار الخازندار، والبحر الأزرق لا المخضرّ وحمّام الليف".
ويُلاحظ وجود أطلال في البحر وهو يراقب من أعلى تلّ، قرب القلعة، ويتساءل: "هل هو رصيف أم بقايا برج مربّع؟ فهو في كلّ جانب بطول مائتي قدم. تحت الصهاريج تعود الأنقاض للظهور في شاطئ البحر، وفي البحر، ثمّة أعمدة بيضاء وسمراء في الرمل، وثمّة مربّع آخر للأنقاض في الماء. وخمسمائة خطوة من هُناك ثمّة تكوُّنٌ مربّع تماماً قبالة واجهة سان لويس، كان لا بدّ أن يكون هناك ممرٌّ، إنّه طرف أرضية الطريق أو الزقاق، كما قاعدة برج". بعد ذلك يتحدّث عن أن نتائج الحفريات أسفرت عن فسيفساء رومانية، وحيطان بالجبس الأبيض بشرائط واسعة بُنّية ذات نقوش بارزة.
يوم آخر
في يوم آخر يعود إلى المكان فيقدّم الوصف التالي: "الجزء الجنوبي والغربي من قرطاج بكامله مغمورٌ في بياض ضبابي، أمّا مرعى حلق الوادي فإنّنا نميّزه من هُنا. المرساتان، الجبال البنفسجيّة المائلة للسواد الشاحب، المُغلّفة بالرّمادي، وجبل النار يبدو واضحاً. وبعض السُّحب الصغيرة في الجزء الأبيض من السماء فوق الشريط البرتقالي. سفينة تبدو في الأفق كنورس أسود هائل، من جهة تونس ثمّة السماء المتلألئة والجبال البنفسجية السمراء. السماء ذات زرقة ذهبية بالغة، وفي سفح حمّام الليف يبدو البحر مائلاً إلى الخُضرة. لا تزال هُنالك نجمة على يمين القمر من ناحية تونس، تبدو ديار حلق الوادي البيضاء بوضوح، والرأس الصالح يظهر بوضوح أيضاً، أمّا ديار سيدي بوسعيد وجبل النار فيغيبان خلف ضباب بنفسجي، ومعهما كلّ شيء عموماً".
وصف بنزرت شبه المهجورة
يعود فلوبير إلى بنزرت مرة أُخرى ويقول إنه تغدَّى في الطريق لحم خنزير بري اصطادَه رفاقه. ويصف المدينة كما يلي: "من الزاوية الغربية لأسوار المدينة الحصينة، على ربوة صغيرة في المقدّمة، تظهر أسوار بنزرت. على اليسار مُنحنى الخليج، ساحل رملي فاتح ورمال في شكل رُبى في العمق تشبه أمواجاً عالية. وفي الخلف، خطوط الجبال. أمامنا ثمّة المدينة، ولسان الأرض الذي منه جئنا، الأسمر في اليمين والأخضر في اليسار، وبحيرتان: أصغرهما أبعدهما؛ والثانية أقرب إلينا، وتستمرّ في شكل قناة تسير لتتصل بالبحيرة الكبيرة على اليمين. وفي الوسط ثمّة جبل مرتفع في شكل هرم، وفيه أبقار وحشيّة. كانت بنزرت تقع إلى الغرب أكثر من اليوم، على الربوة في شاطئ البحر، ثمّة قرصان من الماء كما في قرطاج، قريتان بيضاوان على ضفّة الماء خارج الأسوار. وفي المُقدّمة هُناك ما يُشبه التلّ عليه قلعة. والبنايات الإسبانية شُيّدت في الجهة الغربية على أنقاض رومانية".
ويتابع: "من أسفل العالية، أمامي على اليسار القرية على الجبل في بياضها الواضح على خافية سماء ذات زُرقة كابية. نحن الآن نداور هذا الجبل. وفي الأسفل خطّ من صبّار الهند، وحين نستدير نجد أنفسنا أمام وادٍ أخضر مع صفائح سوداء. وفي العمق البحيرة الكبرى لبنزرت كما صفيحة من المعدن، فالشمس تضرب فيها، والسماء كاملة البياض. زُرنا السيد سوشيناييس، وهو يهودي يُتعتع وذو حركات متكرّرة في الوجه، يُشبه فيورنتينو غير أنّه أقبح منه. السيدة كوستا المعروفة من زمان بحُسنها، عيون حوراء، تتكلّم بسرعة. عُدنا للعشاء، ومنهكين تمدّدنا على أسرّتنا، وصل الأب جيريمي، والسيد كوستا. نوم لا تكدّره البراغيث، وفي الغداة أخذنا حمّاماً عربيّاً".
ويشبه فلوبير بنزرت بمدينة البندقية ولكنها شبه مهجورة كما يقول، ويضيف: "بعد الغداء، نمنا على أسرّتنا. تجوال في القناة الكبرى، مصيدة للأسماك، حواجز من القصب. رجلان إيطاليّان من نابولي يقوداننا. بعد أن تركنا القارب دُرنا حول الأسوار من جهة البحيرة الكُبرى. ثمّة جبل في الوسط، وبه جواميس وحشيّة، دوابٌّ تتجوّل على طول الأسوار. سمعنا صدى طلقة ناريّة، وقفة استراحة لنتأمّل البحر. بعد العشاء سِرنا إلى مقهى في طرف المرسى، السيّدة والآنسة كوستا كانتا معنا بوشاحهما على الرأس".
مراسم تقبيل يد الباي
يستفيض فلوبير في وصف تفاصيل المكان بين تونس وبنزرت بشكلٍ مُبالغ فيه، ولكنه يعود ليخبرنا بأنه حضر مراسم تقبيل يد الباي يوم الجمعة فيصف المشهد كما يلي: "رجُل بدين يحمل عصاً حمراء ذات ثلاث سلاسل، يصرخ بصوت رائع. ظهَر الباي وجلس على كرسيّه المصنوع من عظم الحوت، وراءه سيف وبعض المسدّسات مع كيس النشوق والمنديل. كان شخصاً متعباً، ساذجاً أشيب بأهداب طويلة وعينين نعسانتين، يغيب تحت المذهّبات والصلائب. كان الناس الواحد بعد الآخر يُقبّلون راحة يده التي وضع مرفقها على مخدّة، كانوا كلّهم يضعون قُبلتين على الرّاحة: قبلة، ثمّ يلمسون علية اليد بالجبهة، ثمّ قبلة ثانية".
ويتابع: "يمرّ أوّلاً الوزراء، ثمّ الرجال ذوو العمامة الخضراء، ثمّ أصحاب العمامة المدوّرة. العساكر ببدلاتهم مدعاة للشفقة. إنّهم ذوو عجيزات ضخمة ملفوفة في سراويل لا شكل لها، وأحذية مهترئة، وكتفيات مربوطة بالخيوط، وعدد لا يُحصى من الصّلبان والتطاريز المذهّبة. الدراويش بيض وبلداء، والجو المتزمّت هو نفسه في كلّ مكان، فاللاتسامح في رمضان ذكّرني باللاتسامح نفسه في صيام الكاثوليك. انتهى توارُد العساكر، ثمّ جاء دور الدراويش مرّة أُخرى. يعود الباي إلى بيته، فيُعاود البرّاح الصياح".
مواقع أثرية
يخبرنا الروائي الفرنسي الشهير بأنه زار موقع أوذنة الأثري، فيصفه: "الأطلال الخرِبة مشتّتة هُنا وهُناك، قناة الماء كما صفّ عواميد تدمر، وفي اليمين الصّهاريج. حظيرة، وعدد هائل من الثيران والأبقار. التّقاويس متوازنة، والجصّ لا يزال في حال جيّد، القرية بكاملها تصاحبني. تلاوين سوداء، شمس وكلاب، أسيجة من الحجر ومن الأحراش اليابسة، مشيت على الأرجل بين الأعشاب الصّلبة الطّويلة والصّفراء. باقات من الأشواك كما في سهل أثينا، انزلقت في ثقب. صهاريجُ أُخرى تُشبه حمّامات تيتوس بروما على ما يبدو، وإذا ما هي كانت صهاريج فهي لا تشبه صهاريج قرطاج ولا عتيقة، إذ إنّ بناءها مختلف اختلافاً تاماً، فهو أكثر انتظاماً ونظافة، سِرنا بمحاذاة قناة الماء".
كما يصف موقع دقّة الأثري، حيث يقول: "وصلنا إلى القرية، كلاب تنبح، كتابة على حائط منزل الشّيخ. معبد: أعمدة أربعة بالتاج الكورنثي المضلّع، وفي الطبلة قطعة من منحوتة (جناح وساعد) وطبقة السطح تسندها الحوامل، وفي الأسفل، كعاب وبيض وعُصابات، وهو ما بدا لي متماشياً مع ذوق بعلبك. عمودان عرضيان فقط، وفي العمق لا تزال خلفيّة المعبد بادية للعيان. على الجانب الغربي من الوادي ثلاث كُوم من الأنقاض أو الصّخور، كومة أُخرى منها في الوادي المخضرّ بفعل حقول الشعير، والأبيض في بعض المواقع، والجبال في السّفحين أقلّ رماديّة لأنّنا كُنّا في موقع عالٍ جداً، وفي المقابل وأنا أرى واجهة المعبد ثمّة رَبْوَتان، ثمّ العمق".
في طريق العودة إلى الجزائر
ويقول إنه تعشّى الكُسكس وأمضى ليلته على سطح، ويقول إنه في بلاد لوكيرس أبوليوس، صاحب قصة "الحمار الذهبي" والملقّب بأفولاي. وفي اليوم التالي يُتابع سيره في هذه المناطق التونسية فيقول: "ونحن نُحاذي دائماً السّهل، نصادف البدو، شربتُ الحليب وأنا ممتطٍ جوادي، بعيداً على اليمين ثمّة صخرةٌ بها حُفرة كبرى. سيدي عبد ربّه، بقايا قوس نصر (أو باب). قاعدتا عمود من كلّ جانب مصنوعة من حجر عريض مقدود، إفريز مرتفع عن الأرض بحوالي اثني عشر قدماً، ثمّة إفريز آخر من الشكل نفسه أبعد منه باثنتي عشرة خطوة، وضريح الولي الصالح جنبه على اليمين. أحجار متناثرة في النّواحي، وعلى حجر به ثقوبُ تثبيت ثمّة رأس المسيح في إحدى الحزات. أشعة وحلقة كبرى، هل تلك حلقات أم حبل تصفيف الشّعر؟ بعيداً من هُناك بقايا باب آخر (أو قوس نصر) وقُربها طريق. تركنا سهل القرص الذي يحمل اسمه بسبب البرد القارس".
اتخذ فلوبير طريق البر للعودة إلى الجزائر، ومر بمدينة الكاف فيصف خروجه من المدينة بقوله: "حين خرجنا من الكاف، كان ثمّة مسجد على اليمين، وسهل شاسع أسود، وحين وصلنا إلى الأسفل كان ثمّة وادي الرّمل. بالاستدارة إلى اليمين صادفنا نهراً وأشجاراً ودفلى، وباب (صخرة)، وأكواخاً على اليمين. انعطفنا بحدّة إلى اليمين وتركنا على اليسار جبلاً تكسوه الغابة بكثافة، إنّه جبل الصّديم (خنقة الترابيّة). تجاوزنا المقلع، فغدا البلد أكثر انبساطاً، وأكثر غابيّة ثمّ صعدنا. مجامع للغرانيت، شجر بلّوط وزعرور، هضبة عارية فيها غدير يُسمّى ساقية سيّدي لحسن. خلدت إلى النّوم".