لعلّ الكثيرين لا ينتبهون إلى تزاوُج الفنون وتداخل الإلهام في العالم العربي، وهو تزاوُجٌ مهمٌّ لدوره في ترابط الفنون وتكاملها في الثقافة العربية. فقد نرى كيف أثّر الشعر العربي برحابته وأناقته في فنّ العمارة العربية والإسلامية؛ بل إنّ أفكاراً أبعد من ذلك، ومنها ما هو مجرّد، مثل الجنّة، أصبحت تُحاكَى في الحياة العربية من خلال الحدائق والعمران في كثيرٍ من المدن والحواضر. ولا بدَّ أيضاً أنَّ حدائق قصر الحمراء في غرناطة هي نتيجة إلهامٍ وتصوُّر شِعري للحياة على الأرض.
قد يطول الحديث في هذا الموضوع بسبب تعقيداته، ولكنّ الغرض من الإشارة إليه هو التطرُّق إلى معرضٍ فنّي يزاوج بين بعض نماذج شعرية قديمة وحديثة ورسوماتٍ ولوحات فنّية ذات صلة بها من خلال كُتُب مختصّة بهذا الفن. والحديث هنا عن معرض "فنّانون يصنعون كتباً: من الشعر إلى السياسة"، الذي يستضيفه "المتحف البريطاني" في لندن حتى أيلول/ سبتمبر المقبل، وهو من إعداد وإشراف الباحثة في فنون الشرق الأوسط فينيسيا بورتر، التي كانت حتى وقتٍ قريب مديرة الجناح الإسلامي والعربي في المتحف.
يضيء المعرض على الكيفية التي ألهم الشعرُ من خلالها الرسمَ، وكيف أنتجت ظواهر طبيعية رآها أو تخيّلها الناسُ والشعراء رسوماتٍ ولوحات جميلة من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط. وبالتحديد، يركّز المعرض على فكرة الكتب الفنّية التي تحوي رسومات وقصائد تُحاكيها، وهي فكرة بدت رائجة في باريس في بداية القرن العشرين، ولعلّ أول مَن بدأ بممارستها خلال ذلك الوقت في العالم العربي هو الرسّام اللبناني شفيق عبود (1926 - 2004) الذي ذهب للإقامة ولاستكمال دراسته في باريس عام 1947.
وهنا، في "المتحف البريطاني"، نجد قصائدَ للشاعر الإيراني حافظ الشيرازي، ونصوصاً من "ألف ليلة وليلة"، إلى جانب قصائد لمحمود دوريش وأدونيس وغيرهما من الشعراء العرب المُعاصرين، في إطار لوحات فنية مستوحاة من هذه الأعمال الأدبية.
وبُنية اللوحات الفنية هذه تقوم على دمج القصائد بداخلها، فتقرأ اللوحة مع الشعر الذي استُوحيت منه، مثل قصيدة الكاتب الجزائري محمد ديب "الطفلُ الجاز والحرب"، والتي قام بترجمتها وتمثيلها فنّياً مُواطنه رشيد القُريشي؛ وهي قصيدة تقع في ستّة كتب فنّية، وتستعيد طفولة ديب وذكرياته ومشاهداته خلال حرب تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي.
أعمال تمتد من حافظ الشيرازي إلى محمد ديب وإيتيل عدنان
ونرى لوحة الفنان العراقي ضياء العزاوي، حيث يمثّل قصائد حول نيويورك للشاعر السوري أدونيس. هنا نجدُ كلمة "هارلم" و"جثث الكلمات" في إشارة إلى السود الأميركيين وتأثُّر الشاعر بأحوالهم، فقد كانوا على هامش المجتمع البرجوازي، القريب منهم جغرافياً، لكن البعيد عنهم حياتياً.
كما نجد في المعرض قصيدة محمود درويش "طوق الحمامة الدمشقيّ"، التي يمثّلها الفنان السوري عصام كرباج تمثيلاً يستحضرُ دمشق بشوارعها وأشجارها ونهرها وروائحها. فالقصيدة داخل اللوحة أشبه ما تكون بضوء القمر في سماء دمشق، وعلى الناظر أن يرى الكلمات تخطُّ طريقها في ظلال اللوحة.
كما سرّني عملٌ فنّي من إيران، حيث نقلَ الرسّام بطريقةٍ ما ضوء النجوم في سماءِ إيران كما يراها الناس، فأصبحت الأوراق بقعاً زرقاء تحاكي كثرة النجوم وعلاقة الناس بها في بعض المناطق النائية. كما يشمل المعرض أعمالاً لفنانين مثل اللبنانيين إيتيل عدنان وعبد القادري، والعراقي كريم رسن، والباكستانية ناليني مالاني، والإيرانية فارخونده شرهودي، وغيرهم.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن