صدرت حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ضمن "سلسلة ترجمان" النسخة العربية من كتاب إمبراطورية في حالة تراجع: الولايات المتحدة الأميركية بين الماضي والحاضر والمستقبل" للباحث البريطاني فيكتور بولمر توماس، بترجمة الأكاديمي المغربي توفيق سخان.
يؤكد المؤلف أن الولايات المتحدة كانت إمبراطورية منذ إرهاصاتها الأولى، إذ عمدت إلى تأمين مجالها الحيوي من خلال الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين وارتكاب جرائم الإبادة في حقهم قبل توجهها شرقاً وغرباً وجنوبًا لتبسط نفوذها وتدعم حضورها. ويرى أن ما يميز هذه الإمبراطورية هو إنشاؤها منظمات دولية ومؤسسات متعددة الجنسيات اخترقت نسيج المجتمعات وجعلت من النموذج الأميركي النموذج السائد على مستوى العالم.
يستشرف الكتاب نهاية هذه الإمبراطورية انطلاقاً من مؤشرات موضوعية تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة، حيث يعزو عوامل هذا التراجع إلى أسباب داخلية، تكمن أساسًا في انكماش الاقتصاد الأميركي، وحالة الإحباط العام التي تسود المجتمع الأميركي من جرّاء سياسة اجتماعية مجحفة، وتداعي الأساطير أو العقائد التي قامت عليها الإمبراطورية الأميركية.
يستشرف الكتاب نهاية هذه الإمبراطورية انطلاقاً من مؤشرات موضوعية تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام. في القسم الأول، يتعرض المؤلف لبداية فكرة أميركا وتدرّجها من مستعمرات ثلاث عشرة إلى كيان توسعي ضم جميع الأراضي بعد أن اقتُلع أصحابها، لينتهي بهم المطاف في الأخير إما في محميات أو مستعمرات وإما في كيانات تحت الوصاية الأميركية. ويضع الحكاية في سياقها التاريخي، إذ يكشف تاليًا عن وجه الإمبراطورية البشع، وينبري عبر تقابلات بين الخطاب والممارسة إلى تفكيك مجموعة من الأساطير التي شكّلت الرواية الرسمية الأميركية، فيصرح علنًا، ومن دون مواربة، بأن كثيرين ممن يُعرفون بالآباء المؤسسين مسؤولون حقيقة عما حدث لسكان أميركا الأصليين من إبادات ومجازر.
في القسم الثاني، يعرض توماس الوجهَ الآخر من الإمبراطورية الذي ميّزها من جميع الإمبراطوريات الحديثة؛ وهو إنشاء منظمات دولية ومؤسسات متعددة الجنسيات اخترقت نسيج المجتمعات وجعلت من النموذج الأميركي السائد على مستوى العالم. ومن مؤسسات قانونية تضبط العلاقات بين أميركا وجيرانها من دول الأميركتين، استطاعت أميركا أن تضمن لذراعها الاقتصادية التغلغل في المجتمعات، وفرض لعبة يجب على الآخرين التزامها. غير أن هذه المؤسسات ما كانت لتصمد لولا القوة العسكرية الأميركية التي جعلت من قارئ هذا التاريخ يعتبر الولايات المتحدة عن حق "أمة القواعد العسكرية". ويعدد المؤلف الحالات والأمثلة، لكن يبقى هناك دائمًا خط ناظم، إن لم يكن خطًا أحمر، وهو المصالح الاستراتيجية القومية.
لقد أنشأت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية نظامًا للتجارة ومؤسسات مالية لا تتظاهر حتى بالحفاظ على فكرة التكافؤ الخيالية بين الدول في ظل القانون، بحسب الكتاب، وفي أكثر هذه المؤسسات أهمية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سبيل المثال، حظيت الولايات المتحدة باليد الطولى من خلال معاهدة إنشاء هذه المؤسسات (معاهدة بريتون وودز)، بحيث لا يمكن تحدي سلطتها بسهولة. فعلًا كانت أميركا البلد الوحيد الذي يتمتع بحق النقض بخصوص التعديلات التي تطاول هذه المؤسسات، أي يستحيل القيام بإصلاحات من دون موافقة أميركية.
ويشير المؤلّف إلى أن لحظة أحادية القطب وفرت للولايات المتحدة فرصةً لفرض النفوذ الإمبراطوري على نحو غير مسبوق؛ إذ انتقلت الولايات المتحدة، بسلاسة تقريبًا، من عالم الحرب الباردة، حيث واجهت بعض القيود، إلى عالم وجدت نفسها فيه، على نحو شبه كامل، حرةً من أي قيود. وهكذا، خلص كثير من الأميركيين إلى أن فرض إمبراطوريتهم هو أفضل السبل لضمان النظام العالمي. وقد عززت ذلك الاعتقاد فظائع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 [بدل أن تقوضه].
في القسم الثالث، يعرض توماس لأطروحته المركزية، وهي تراجع الإمبراطورية الأميركية. وإذا كان الهدف الاستراتيجي الأميركي وراء إقامة هذه المؤسسات يتمثل، في مرحلة لاحقة، في ضمان دعم الدول التي تسير في ركْبه للمشروع الإمبراطوري الأميركي، أو في أقصى حالات حُسن النية، عدم الاعتراض عليه، فإنه بات واضحًا أن الولايات المتحدة ما عادت الآمر الناهي، وأنها في بعض الحالات قد تضطر إلى الانسحاب من هذه الترتيبات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويرى المؤلف أن عوامل هذا التراجع تعود إلى أسباب داخلية، يحددها أساسًا في انكماش الاقتصاد الأميركي، وحالة من الإحباط العام التي تسود المجتمع الأميركي من جرّاء سياسة اجتماعية مجحفة، وتداعي الأساطير أو العقائد التي قامت عليها الإمبراطورية الأميركية. وكما قال الناقد الماركسي رايموند وليامز يومًا، لا يمكن الهيمنة، أيّ هيمنة، أن تكون شاملة مطلقة؛ إذ يبقى هناك دومًا جيوب مقاومة. ولعل ذلك ينطبق أيضًا على الإمبراطورية الأميركية.
تشهد الإمبراطورية الأميركية الآن تراجعًا سببه إلى حد بعيد قوى داخلية. وقد أدت الأنماط الأربعة التي تمثل النزعة المعارضة للإمبريالية دورًا كبيرًا في هذا التحول، كما أن أهميتها تنمو وتتزايد. غير أن التقليد الإمبراطوري والنظام الإيماني لا يزالان قويّين، ما يفترض قيام صراعات أساسية خلال العقد التالي بين هاتين القوتين المتعارضتين. إن وجهة الرحلة واضحة، حتى لو أن السفر سيكون مليئًا بالمطبّات، ونحن نجد تضافر الضغوط الداخلية بقوى خارجية على نحو متصاعد، بما سيجعل الإمبراطورية تواصل تراجعها لا محالة.