في الحاجة إلى تقاليد فكرية

23 اغسطس 2024
"ذو الجلال والإكرام"، كمال بُلّاطه، طباعة على الحرير، 39× 45 سم (1985)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **عجز الثقافة العربية عن بناء تقاليد فكرية متماهية مع قضايا الناس الملحّة**: يعبر الكاتب عن مرارة المثقف المغربي تجاه عدم قدرة الثقافة العربية على بناء تقاليد فكرية تتماشى مع قضايا الناس الملحة، مشيراً إلى أن الإنجازات الفكرية تبدو كجزر منعزلة.

- **أهمية تطوير تقاليد فكرية حية وقابلة للتطور**: يشير الكاتب إلى أن قوة الفكر تأتي من تقاليده الحية والقابلة للتطور، ويقترح أن تقوم الجامعات العربية بالاعتناء بتراث فلاسفة مثل ابن رشد وابن عربي.

- **ضرورة التمييز بين النقد والأيديولوجيا**: يؤكد الكاتب على أهمية التمييز بين النقد والأيديولوجيا في الفكر العربي، داعياً إلى استثمار النقد الصادق والتحرر من الأوهام الأيديولوجية لبناء فلسفة عربية معاصرة مرتبطة بالعلوم الاجتماعية.

سيعبّر لي مثقفٌ مغربي مشهور، ينتمي إلى صقور الحداثة في الثقافة العربية، وفي كثير من المرارة، بأن الثقافة العربية تخلّصت من التقاليد ولكن دون أن تنجح في الالتحاق بالحداثة. لا أعرف إلى أي حد يمكن القبول بهذا التشخيص، ولكن لا يمكن في الآن نفسه أن نرفضه كلّية. وبعيداً عن هذه الثنائية الضارة والتي استوردناها في روح غير نقدية من السياق الغربي، وأعني بذلك ثنائية التقاليد/ الحداثة، والتي تغفل أن التقاليد لا تموت في الحداثة، فإن المشكلة، برأيي، لا تكمن في العجز عن تحقيق تلك النقلة إلى الحداثة، كما لا تكمن في التشبّث من عدمه بالتقاليد، ولكن في عجزنا عن بناء تقاليد فكرية متماهية مع قضايا الناس الملحّة.

فالإنجازات الفكرية في السياق العربي أقرب إلى الجزر المنعزلة، وقد يعتقد بعض مفكرينا بأنه لن تقوم له قائمة إلا إذا أقدم على تبخيس عمل الآخرين، بل وقد يبني جماع مشروعه الفكري على ذلك، كما قد يختلط الأمر على بعضهم، فيخلط بين التفكير والحملة الانتخابية، وهو يعتقد بأن المجال الثقافي العربي لا يتسع إلا لمفكّر واحد، لينقل بذلك أمراض الحزب الواحد إلى حقل الثقافة.

ولكن يظلّ السؤال الذي يتوجب أن نطرحه هو الآتي: لماذا فشلنا في تطوير تقاليد فكرية وأكاديمية كفيلة بالمضي بالتفكير والإبداع إلى آفاق جديدة وربطهما بالتحولات المعاصرة؟ هل لأن الاستبداد لا يسمح بنمو مثل هذه التقاليد؟ قد يكون ذلك صحيحاً إذا فهمنا الاستبداد باعتباره ثقافة، وثقافةٌ ترخي سدولها حتى على أولئك المثقفين الذين انبروا لنقده. أم أن للأمر علاقة بمؤسسة الجامعة في السياق العربي، والتي في انحسارها واغترابها عمّا يحدث في العالم ظلّت عاجزة عن بناء تقاليد فكرية تخاطب وتحاور من خلالها العالم؟

عجز عن بناء تقاليد فكرية متماهية مع قضايا الناس الملحّة

يشعر كاتب هذه السطور بغير قليل من الحسد - والحسد قد يكون إيجابيا أيضاً إذا دفعنا لتجاوز نقائصنا - وهو ينظر إلى الجامعات الألمانية وقد انبرت كل جامعة للاعتناء بتراث فلسفي معين على امتداد أجيال كثيرة، حتى أصبحنا اليوم نلتقي بممثلين للتقليد الكانطي أو الهيغلي أو النيتشوي أو الفينومينولوجي أو الهيدغري أو للنظرية النقدية ومنافحين عن هذه التقاليد في مختلف أطراف العالم.

ومؤخّراً احتفت جامعات كثيرة في العالم بمرور 300 عام على ميلاد ايمانويل كانط، ومنها جامعة الحسن الثاني في المغرب والبيت العربي في برلين. ألم يكن بإمكاننا أن نقوم بشيء من قبيل ذلك في ما يتعلق بابن رشد أو حتى ابن عربي، أن نقرأهما من خلال العالم وأسئلة الفكر المعاصرة؟ بل ألم يكن بإمكاننا، وحتى أذكر المغرب فقط، أن نطوّر الشخصانية الإسلامية، بشكل نتجاوز به الثقافوية الغربية التي تربط الإسلام بالإرهاب والتخلّف ومعها كل تلك التأويلات التي تريد أن تخرجنا من العصر؟ أو أن نطوّر "النقد المزدوج" إلى إيتيقا للحوار مع الذات والآخر؟

إن قوة الفكر من قوة تقاليده، ولكن الأمر يتعلق بتقاليد حيّة، قابلة للتطوّر، هي هبة للحوار مع العالم، وغياب تلك التقاليد يضعف الفكر ويجعله يراوح كما الحال اليوم في السياق العربي بين التغريب والتقليدانية، في اغتراب عن واقع المجتمعات العربية.

تطوير "النقد المزدوج" إلى إيتيقا للحوار مع الذات والآخر

يتحدث البعض اليوم عن فلسفة عربية معاصرة، مغفلاً أنه لا يمكن الحديث عن ذلك إذا لم نطوّر تقاليد فكرية تخاطب وتحاور العصر، فتأسيس مثل هذه الفلسفة ليس حدثاً أكاديمياً، أو نزوة فكرية، وليس امتيازاً أو حكراً لمؤسسة دون غيرها، ولكنه حدث نقدي، والتزام بالتفكير الجدّي في واقع المجتمعات العربية. ويبعث، لا ريب، على الشفقة ذلك الذي يطلب تأسيس حقل للفلسفة العربية المعاصرة، أي لشيء غير موجود، ويبين عن جهل وهو يخلط بين تدريس الفلسفة الغربية في الجامعات العربية وبين ما يسميه الفلسفة العربية المعاصرة، أو وهو يخلط بين الفلسفة والخطاب الأيديولوجي عموما. والأغرب من كل ذلك أن هؤلاء الذين يتحدثون عن الفلسفة العربية المعاصرة يتحدثون عن كلّ شيء، إلا عن ضرورة ربط هذه الفلسفة عُضوياً بالعلوم الاجتماعية، حتى لا ترتبط، وليس كما يريدون، بقضايا ثقافوية زائفة مثل الأصولية الدينية.

لا غرو أن سيطرة الأيديولولجيا على الفكر العربي المعاصر وتبعية الثقافي للسياسي والحزبي كانت سبباً رئيسياً حال دون بناء تقاليد فكرية حقيقية. ولهذا السبب، يتوجب علينا اليوم أن نميّز بين ما هو نقدي عند الجيل السابق وما هو أيديولوجي، أي بين ما نستطيع أن نستثمره في معركة الوعي وصراعات الحاضر وما يتوجب أن نتركه يتلاشى بل وأن نساعده على ذلك. فوفقاً لهذا المنطق البراغماتي، الذي يميز بين النقد والأيديولوجيا، يمكننا أن نتعامل مع الجيل الذي سبقنا ومنجزه الفكري، لقد أورثنا ذلك الجيل الكثير من الصخب الأيديولوجي وغير قليل من النقد ولربما كان أكثر صدقاً منّا في مواجهة الاستعمار وتبعاته وفي الالتزام بالقضايا العربية، ولربما لذلك كانت أوهامه كبيرة، فيتوجب أن نأخذ بصدقه، ونتحرّر من أوهامه.


* كاتب وأستاذ فلسفة من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون