في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973، أصدرت "الجمعية العامّة للأمم المتّحدة" قرارها باعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة، وهو ما كان له صداه وتجلّياته لاحقاً. ومن ذلك أن مجلّة "المعرفة" السورية، التي كان لها شأنٌ آنذاك، عمدت إلى التحضير لعددٍ ممتاز عن هذا الحدث بعنوان "اللغة العربية والعصر"، صدر في كانون الأول/ ديسمبر 1976 في 276 صفحة، وشاركت كوكبة من أساتذة الجامعات (شكري فيصل، وحسام الخطيب، وجعفر دك الباب، وغيرهم). وقد كان لي آنذاك، خلال عملي بقسم الاستشراق في "جامعة بريشتينا"، شرفُ المساهمة في هذا العدد ضمن القسم المتعلّق بعلاقة اللغة العربية بغيرها من اللغات، ببحث "اللغة العربية في اللغة الألبانية".
وفي الحقيقة، كان مصدر هذا البحث كوني وُلدتُ في عائلة كوسوفية بدمشق، في حارة بغالبية ألبانية، وراء "معهد اللاييك" في شارغ بغداد، ونشأتُ مهتمّاً باللغة العربية والتاريخ، إلى أن حانت لحظة الاختيار للتسجيل في "جامعة دمشق"، حيث بقيتُ متردّداً بين شبّاك التسجيل في قسم اللغة العربية وشبّاك التسجيل في قسم التاريخ، إلى أن حسمتُ أمري لصالح قسم اللغة العربية، بعد أن عرفتُ أنّ فيه موادَّ أساسية في التاريخ الإسلامي والحديث.
وهكذا، كنتُ وبقيتُ ممتنّاً لهذا الخيار لأنّني تعلّمت من خيرة الأساتذة في بلاد الشام في هذين المجالين معاً (عاصم البيطار، ومازن المبارك، وشكري فيصل، وشاكر الفحّام، وإحسان النصّ، وحسام الخطيب، وأحمد بدر، ونبيه العاقل، وليلى الصبّاغ، وعبد الكريم رافق، وغيرهم). وقد استمرّتْ هذه الازدواجية معي في كوسوفو، حيث تابعت دراساتي العليا وحصلتُ على دكتوراه في الأدب المقارن أوّلاً، ثم في التاريخ الحديث، وعملتُ بحثاً وتدريساً ونشراً في المجالين المذكورين خمسينَ سنة.
كان بحثي المذكور، "اللغة العربية في اللغة الألبانية"، ينمّ في عنوانه عن حجم الحضور العربي في اللغة أوّلاً، نتيجة عوامل كثيرة تشابكت خلال 400 سنة تقريباً من الحياة المشتركة في دولة واحدة (العثمانية)، ومنها انتشار الإسلام بين الألبان وكتابة اللغة الألبانية بحروف عربية، ثم في الأدب، وهو ما خصّصتُ له أطروحة الدكتوراه: "الصِّلات الأدبية الألبانية - العربية"، التي لم تُترجم للأسف حتى الآن إلى العربية.
من الاهتمام إلى السطو
كانت سنوات السبعينيات فترةَ انفتاح وإعادة تواصل لألبان يوغسلافيا مع العالم العربي ضمن مظلّة عدم الانحياز، التي شملت ذهاب الطلّاب للدراسة في الجامعات العربية، والعمّال والأطباء والمهندسين للعمل في المشاريع التي تولّتها الشركات اليوغسلافية، وكان آخرها المجمع الضخم الذي بُني كقاعدة عسكرية في شمال الأردن، قرب الحدود السورية، وتحوّل إلى مقرّ لـ"جامعة آل البيت" في 1993، التي صادف أن عملتُ فيها بُعيد افتتاحها. وأذكر أن السفير اليوغسلافي في عمّان جاءنا مرّة للمشاركة في ندوة، وعندما استأذن للذهاب إلى الحمّام، عاد ليقول إنه شعر هناك كأنه في بلغراد، لأنّ كلّ التجهيزات كانت من طراز "صُنع في يوغسلافيا"!
في هذا السياق السياسي والمعرفيّ الجديد، ازداد الاهتمام بالدراسات حول الحضور العربي الإسلامي في الثقافة الألبانية، أو حول حضور الثقافة العربية الإسلامية في البلقان، حيث خُصّصتْ عدّة رسائل ماجستير لذلك، منها ما نوقش في أقسام الاستشراق في الجامعات اليوغسلافية ("ترجمات القرآن في اللغة الصربوكرواتية" لفتحي مهديو)، ومنها ما نوقش في الجامعات العربية.
يسطو السارق على جهد ومراجع غيره ويُهمل ذكره في الهوامش
في تلك السنوات، كانت دراستي المنشورة، "اللغة العربية في اللغة الألبانية"، رائدة بالنسبة لِمَن اختار أن يتابع دراساته العليا في الجامعات العربية وأن يكتب في مواضيع ذات صِلة في رسائل الماجستير، وخاصّة بعد أن أصبحتْ نواةً لدراسات أوسع مثل كتابي "الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية" (الكويت، 1983). ولكنّ هذا الاهتمام بالدراسة راوح بين الاستفادة منها حسب الأصول الأكاديمية، وبين السرقة العلمية "حسب الأصول" التي أصبحت معروفة: السطو على المعلومات التي استمدّها المؤلّف من مصادر متنوّعة وذكرها مع المصادر في الهوامش دون ذكر الدراسة الأصلية التي نُشرت فيها تلك المعلومات والمصادر.
وللأسف، فإنّ هذا الأمر تكرّر مع رسالتَيْ ماجستير، الأولى في "الجامعة الأميركية المفتوحة" بالقاهرة، والثانية في "جامعة الكويت". أمّا الأولى، فقد قابلتُ صاحبها، بكر إسماعيل، في القاهرة ربيع 1998، عندما كان طالباً في الماجستير، وأخبرني عن اهتمامه بهذا الموضوع وطلب منّي تزويده ببعض دراساتي، لأُفاجأ فيما بعد بأنه سطا عليها في رسالته للماجستير: "أثر اللغة العربية في اللغة الألبانية"، التي ناقشها عام 1999، ثم في رسالته للدكتوراه: "اللغة العربية وأثرها في اللغة الألبانية"، التي نشرتْها "الهيئة المصرية العامّة للكتاب" في 2016، حين كان المدعوّ قد أصبح سفيراً لجمهورية كوسوفو في القاهرة، في وقتٍ لم تكن فيه علاقات دبلوماسية بين الدولتين!
وبالطبع، كان لا بدّ من دعوى عليه، انتهت بإصدار المحكمة الاقتصادية بالقاهرة، في 30 كانون الثاني/ ديسمبر 2019، حُكمها المتضمّن إثبات السرقة وتغريم المدّعى عليه 15 ألف جنيه (وهو مبلغ كانت له قيمة آنذاك) مع أتعاب المحاماة.
وأمّا الثانية، فقد حدثت في وقت مبكّر، ولكنّها لم تُكتَشَف إلّا قبل أيام فقط، بمحض الصدفة. ففي ربيع 1977، عاد زميلي في القسم، إسماعيل أحمدي، من "جامعة الكويت"، بنصيحة من المشرف أحمد مطلوب، على رسالته للماجستير: "الثقافة العربية في مقدونيا وقوصوى: من أوائل القرن الخامس عشر إلى أوائل القرن الثامن عشر"، لمراجعتي باعتباره قرأ لي شيئاً في العربية حول الموضوع.
وبالطبع، فقد رحّبتُ بذلك وقدّمت له الدراسة المذكورة التي كانت قد نُشرت لتوّها في مجلّة "المعرفة"، وشكرني بحرارة. وبعد أن ناقش الزميل أحمدي الرسالة في 1978، توقّعتُ منه، كما جرت العادة، أن يقدّم لي نسخة من رسالته لأرى كيف تناول الموضوع، وخاصّة بعد أن سمعتُ أنه قدّمها لبعض الزملاء. ولكنّ إحجامه عن ذلك جعلني أشكّ، وبقي هذا الشكّ قائماً إلى أن سمعتُ قبل أسابيع أنّ هذه الرسالة نُشرت ككتاب بعنوان "الثقافة العربية الإسلامية في مقدونيا وكوسوفا: من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر"، عن "معهد الشارقة للتراث" في 2021.
نشر "معهد الشارقة" رسالة ماجستير مضى عليها 43 سنة
وهكذا، باستثناء التغيير الطفيف في العنوان (من "قوصوى" إلى "كوسوفا")، كان من المستغرب أن يقوم معهدٌ علمي بنشر رسالة ماجستير مضى عليها 43 سنة بدون أي تحديث، وهي العقود التي شهدت طفرة كبيرة في الدراسات حول الثقافة العربية الاسلامية في مقدونيا وكوسوفو والبلقان بعد 1990، ونُشرت خلالها رسائل ماجستير ودكتوراه وكتبٌ في اللغات البلقانية/ الأوربية وحتى في العربية.
ولكنّ نشر هذا الكتاب حفّزني للبحث من جديد عن رسالة الماجستير التي تمّت مناقشتها في قسم اللغة العربية بـ"جامعة الكويت" في 1978، ووجدتها منذ أيام فقط، لأفاجأ بأن صاحبها قد اقتدى بالسفير بكر اسماعيل، حيث أخذ من الدراسة المنشورة في مجلة "المعرفة" أهمّ المعلومات والمصادر ونسبها لنفسه، دون أن يُشير إلى الدراسة المذكورة التي قدّمتُها له على سبيل المساعدة. ولكنّ مثل هذه الأمور لا تسقط بالتقادم، بالطبع، والأمر سيكون الآن في عهدة الجامعة والجهة القضائية المختصّة بهذه الأمور لتتّخذ ما تراه مناسباً.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري