استمع إلى الملخص
- يونغ يُظهر كيف تتداخل مفاهيم الوعي واللاوعي مع جوانب الحياة المختلفة، مشددًا على صعوبة تضمين كل تجليات اللاوعي في نظرية واحدة وأهمية فهم الذات والعالم بتجاوز مسألة اللاوعي.
- يُناقش الفروق بين الوعي في الثقافة الأوروبية والثقافات الأخرى، مشيرًا إلى تحديات الثقافة العربية في استهلاك المعرفة وأهمية الانتقال من اللاوعي الجمعي إلى الفردي لتطوير الذات والمجتمع.
يتحدّثُ عالم النفس السويسري كارل يونغ، في كتابه "ذكريات وأحلام وتأمّلات"، عن سيرته وتجربته وأفكاره خلال عقود طويلة عاشر فيها فرويد، ومؤسّسين آخرين لعِلم النفس الحديث. ولعلّ النقطة الرئيسية في الكتاب تدور حول ما يُعرف باللّاوعي وتجلّياته المختلفة، سواء في حياتنا اليقِظة أو في حياة الأحلام.
ويُعدّ يونغ من الأوائل الذين تطرّقوا إلى اختلاف الوعي واللّاوعي ومعناهما في ثقافات مختلفة؛ فما هو وعيٌ وما يُولى بدرجة من الاهتمام في ثقافة ما قد لا يكون بالضرورة كذلك في ثقافة أُخرى، بل قد يكون تجلّياً لأنانية مفرطة أحياناً. ويعودُ الفضل في هذه الأفكار إلى أسفار يونغ في بلدان مختلفة كثيرة، بدأها من تونس ثمّ الهند والولايات المتّحدة وغيرهما. وربّما ما يُميّز الكتاب عن غيره، في تطرّقه لمسألة الوعي الشائكة، قدرةُ الكاتب على أخذ نفسه والقارئ عبر رحلة طويلة من التفكير وتقليب الأمور.
لغةُ الكتاب أشبه بمسرحية لا تنتهي فيها الأفكار والخواطر والحوادث، وهي مسرحيّة مُثيرة وغنيّة، ولا تخضع، مثل الكثير من السير الذاتية، للتقنين الذاتي؛ حيث التركيز على جانبٍ شغلَ صاحب السيرة طوال حياته. يوجد هذا أيضاً، لكنّ أفكار يونغ عن الوعي واللّاوعي والأحلام تقترب من حواف اللّامعقول في تعاملها مع هذه المسائل وربطها بأشياء كثيرة، منها عالم الطفولة والتنشئة المُبكّرة، والتي لا يُمكن أن تصل نظريةٌ ما لتضمين كافّة تجلّياتها.
لا يُمكن المضيّ قُدُماً من دون تجاوز مسألة اللاوعي
الوعي الأوروبي قائمٌ على الفردية والتغلغل في مكنونات النفس لفهمها بمعزلٍ عن المجتمع وعاداته، وهو وعي خاصّ، وإن أخذ طابع العالمية، إذ أصبح الكثيرون يلهثون خلفه، بسبب افتتان بالثقافة الغربية التي تصاعدت فيها المعرفة والتفكير التحليلي والتطوّرات العلمية، بينما الثقافات الأُخرى، مثل الثقافة العربية، تبدو ثقافة استهلاك معرفي وعِلمي في أغلب الأحيان، وليست كما كانت في الماضي ثقافة إنتاج معرفي وعِلمي وثقافة اجتهاد. الوعي الأوروبي له تاريخ يتعلّق بتحطيم الأيقونات الغيبية خصوصاً، تجاه إدراك فردي وتجربة فردية، وبالتالي حياة فرديّة بكلّ ما فيها من وحدة ووحشة وأحياناً انهيارات نفسية متعدّدة الوجوه.
ومع هذا، لا يُخفي يونغ نظرته الفوقية كإنسان أوروبي، عاش وبرز اسمُه في النصف الأوّل من القرن العشرين، وشهد تطوّرات كبيرة في العالم الغربي. ولكنّه، في الوقت نفسه، لا يُخفي قلقه من تصاعد حدّة الفردية الأوروبية والكآبة المترتّبة عنها. وهكذا، يُنادي بفردانية مسؤولة؛ أي فردانيةً داخل المجتمع، من خلال تفاعُل ومسؤولية تجاه الآخرين. إنّها فردانية تعي ذاتها في الإطار المجتمعي والعالمي والكوني، وليست فردانية خلاص بمعزلٍ عن المجتمع والعالم.
أين العالم العربي من كلّ هذه المفاهيم التي تبدو غير مهمّة، لكنّها في الحقيقة في صميم معنى أن يكون الإنسان إنساناً، أي أن يُسخّر الإنسان ما حوله لخدمته كفرد، وكمجتمع نواتُه الأفراد في آن واحد. اللّافت أنّ مسألة اللّاوعي لم يَجرِ الاهتمام بها كثيراً في الثقافة العربية، وذلك ربّما لحساسيتها وللرِّيبة التي تعتري أيّ نظرة مختلفة عمّا هو مألوفٌ لدى المجتمعات العربية، حيث تُثبَّت "الأيقونات" وتدورُ حولها حياة الأفراد، ولا يجري التفكير كثيراً من خارجها، سواء تلك المتعلّقة بالدين أو بالعادات أو غيرهما. اللّاوعي هو المُسيطر على عالم الأفراد في العالم العربي، ولا مفرّ للفرد منه.
الحياة تحت ظلال "الأيقونات" من دون أسئلة، ومن دون سماع الصوت البشري الخاصّ، والتجربة البشرية الخاصّة هي حياة لا يمكن إلّا أن تُكرّس اللّاوعي وتورّث اللّاوعي. ولللّاوعي نصيبٌ من كلِّ البشر حيثما كانوا، لكن لا بدّ من الانتقال من اللّاوعي الموروث والجامد إلى اللّاوعي الفردي القائم على تجربة الفرد مع الأشياء والنصوص وتفكيره الذاتي فيها، بعيداً عن ضغط العادات والتقاليد، أيّاً كان مصدرها، ولا يمنع ذلك أن يكون الفردُ منخرطاً في مجتمعه، وأن يمارس الدين والطقوس والتقاليد داخله. ولكنّها مسألة نسبيّة تتطلبُ وعياً أكثر يتجاوز سجن الفرد داخل المجتمع. وتلك من عِلل العالَم العربي الكثيرة التي لا يُمكن المضيّ إلى الأمام من دون تجاوزها.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن