تحتَ انهيارات الوجود
I
هذا الصغير المرفوع رأسهُ على رمح العاصفة
والمدفونُ جسدهُ تحتَ انهيارات الوجود
هذا الذي أضاعَ في حشدٍ من المجروحينَ طفولته
وصار عليه أن يفهم الدمَ والأشلاءَ وبكاء المُعزّين،
هذا الذي كان عليه أن يكونَ نائمًا جنب أمّه المطمئنّة
وأبيه الذي يرسم على سقف غرفته غدًا مزدحمًا بالزهور
والذي في لحظةٍ صارَ وحيدًا، تزعقُ بوجههِ نيران القاذفات
وتوزِّعُ أعضاءه شظايا كان يظنّها يدًا تلاطفه؛
هو طفلي، سريره جنب سريري
ودمهُ الآن، يجري في عروقِ فراشي.
II
هؤلاء الصغار
الذين ما استيقظوا من رقدةٍ تحت القبور الحجريّة،
صغاري،
وأنا أبٌ مشدوهٌ في قلب الليل والنار والطائرات،
لا يعرف كيف يقسّم حزنه بعدالةٍ في لحظةٍ واحدة
لذلك لست بحزين
فقط أبٌ فقد من صغاره المئات
فبماذا تطالبونه!
■ ■ ■
باسمِ كلِّ النائمين تحت التّراب
من أيِّ حديقةٍ في الأرض
سنختارُ شجرةً، من دونِ ما صارَ رمادًا، ظلَّت بِعُرْيِها صامدة،
لنصنعَ من خشبها هذا الصليب
الصليب الذي نفكِّرُ به أنا وأنت،
عاليًا حدَّ أن يراه الضحايا من شرفات الزمان البعيد
فترتاحُ أجسادهم المُهشَّمةُ وتهدَأ أراضيهم المُقطَّعة الأوصال.
في أيِّ بلادٍ سنعثرُ على ما يكفي
من مساميرَ ومطارقَ وحبالٍ مضفورةٍ بحرقةِ قلبٍ كي نكمل نِجارَتهُ
وأيّ مدينةٍ ستقول:
خذوا صَخرتي التي تشكَّلت بقصفِ طائرةٍ
وانهدامِ ليلٍ على ساكنيه،
خذوا للصليب هذا الشَّعَر المدهونِ وهذه اللعبةُ الضاحكة
وهذه الآمال التي للتوِّ نبتت على الألسنة
ثم ارفعوه بوجه الخلائق كلِّها
ونادوا حتّى تمزّق الحِبال:
باسم كلِّ النائمين تحت التراب
سَنَصْلِبُكِ إلى غدٍ لن يصل
وإلى مَساءٍ ممحوٍّ من دفتر الليل
إلى حيثُ لا تاريخ ولا أزمان
يا أميركا.
■ ■ ■
المائدة
خُذ ما تشتهي من المائدة:
أشلاءٌ عربيَّةٌ أجاد المستعمرونَ طبخها
شرابٌ من دمٍ ودمعٍ مع نكهة الفسفور "الحَلال"
وهذه العظام؟
كانت معتَّقة تحت التراب، من مجازرَ قديمةٍ نَسيناها،
أخرجتها القذائفُ في أوَّل الأمس،
يمكنك أن تسمعَ فيها صراخًا قديمًا وتشمَّ رائحةَ موتٍ يتجدَّد.
خذ ما تشتهي من مائدتنا المُباحة على الطريق
يمرُّ عليها قتلةٌ كثيرونَ قادمونَ من مدن تصنع الحقوق وتبيعها
ولا يسألون: من هذا الكريم الذي أباح لنا لحم أهله
ووهب لنا أرضه نتعلَّم فيها الافتراس كيفما نشاء.
يعرفون لمن هذه المائدة
ومن بعيد،
يشمُّون منها عطر الفتى العربيّ
يفوحُ من تحتِ سبعِة بيوتٍ مُهدَّمة عليه.
■ ■ ■
لا بأس يا أمّ
أتُخيفكِ هذه الوحوشُ!
نعرفها من أوَّلِ فريسةٍ في هذه الغابة
نعرفُ ماضيها وحاضرها،
ركضٌ خلفَ الفرائسِ لا غير
نعرف حقيقتها كذلك،
لكن فاتنا أن نظلَّ يقظين
وفي غفلةٍ صارت ترتدي ثيابًا مغزولةً بالعدالة،
ومطرَّزةً بالحريَّة اللامعة
وصدَّقناها يا خائفة
صدقناها يا بيتك العراء،
وعائلتك يلوك بها الموت.
لا بأس يا أمّ،
لا زالت ترتدي هذه الثياب،
لكنَّها مُبقَّعةٌ بدمائنا،
لاىزالت تهدر أفواهها بالسماحة،
وفي أنيابها المجزرة.
■ ■ ■
كما لو أنَّني لم أمت
سأكملُ هذا اليوم
وقاتلي يحملُ جثَّتي ويطوفُ بها في الأرض
ويقول: هذا قاتلي.
سأنام كما لو أنَّ هذا الحطامُ ليسَ منزلي
وهذهِ المدينة المُستَعرِةُ ليست مدينتي
وهؤلاء القتلى،
لا أعرفهم
وصدفةً يمرّونَ من على جثث أهلي.
سأنامُ مَرَّةً أُخرى
كما لو أنَّني لم أمت
وأستيقظ مُبكِّرًا لأُكمِلَ قتالي.
* شاعر من العراق