من المعروف أنه في اليوم الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1928، اتّخذت دولة الحزب الواحد برئاسة أتاتورك، قرار اعتماد الحرف اللاتيني، بدلاً من الحرف العربي في الأبجدية العثمانية، باعتباره تتويجاً لسلسلة من القرارات من أجل "تحديث" المجتمع التركي. بدءاً بإغلاق تكايا الدراويش، ومنع ارتداء العمامة والطربوش، واستبدالهما بالقبّعة الغربية عام 1925، مروراً باعتماد التقويم الأوروبي والقانون المدني السويسري والجنائي الإيطالي، وانتهاءً بقرار تغيير الأبجدية الذي لم يمرّ بسهولة.
ومثلما أيَّد كثير من المثقّفين الأتراك، مسألة تغيير الأبجدية، التي عُرفت بـ"الانقلاب اللغوي"، أو "ثورة الحرف"، عارَضها آخرون، وعلى رأسهم الشاعر والسياسي خليل نهاد بوزتبة (1882- 1949)، في ديوان شعري بعنوان "قصيدة الشجرة"، الذي صدر للمرّة الأولى بعد قرار تغيير الأبجدية بثلاث سنوات، أي عام 1931، وصدرت حوله حديثاً دراسة من إعداد الباحثة والأكاديمية التركية بهانور جَران غوكشان، بعنوان "قصيدة الشجرة: هجاء ثورة اللغة".
ويُعدّ هذا الديوان أحد أهمّ الأعمال التي انتقدت ثورة الحرف، والتراكيب اللغوية المُصطنعة والقواعد اللغوية الجديدة التي تُناسب الحرف اللاتيني، كما رسمت إطاراً نقدياً للسنوات الجمهورية المبكّرة والحياة السياسية. وقد عُرف خليل نهاد بوزتبة في الأوساط الأدبية التركية بروح الدعابة وكتابة الشعر الساخر. ولد في مدينة طرابزون عام 1882، وعمل مدرّساً للغة الفرنسية لفترة، وبدأ بنشر قصائده الساخرة ومقالاته النقدية اللّاذعة باسم مُستعار في مجلّة "ثروة الفنون"، قبل أن ينشط في السياسة، ويُصبح عضواً في البرلمان التركي لثلاث فترات عام 1927. وإلى جانب كتابته للشعر، حيث أصدر أول ديوان شعري بعنوان "سهام الإلهام" عام 1921، تميّز الشاعر والسياسي نهاد بوزتبة بمعرفة واسعة بأدب الديوان العثماني، وإتقانه للفرنسية التي ترجم منها العديد من الأعمال، أبرزها رواية "تارتارين تاراسكون" للروائي ألفونس دوديه.
استخدم في الطبعة الأولى لغة حذرة خشية الاصطدام بأتاتورك
وتعود قصة ديوان "قصيدة الشجرة" إلى أن نهاد بوزتبة كان يُعرف بحبّه للطبيعة واهتمامه بالأشجار، وقد طلب منه رئيس جمعية "حماية الأشجار" أن يكتب ديواناً عن الأشجار. ويبدو أنّ الشاعر الذي لم يكُن معجباً بكثير من القرارات الأتاتوركية، وعلى رأسها، تغيير الأبجدية، قد انتهز الفرصة وبدأ في كتابة هذا الديوان، الذي يبدو في ظاهِره أنه يتحدّث عن الأشجار، لكنه في الحقيقة كان تعبيراً عن انتقادات النقاشات اللغوية، والأحداث الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة. وفي هذا العمل، انتقد نهاد بوزتبة الأنشطة المناهضة للتقاليد الاجتماعية والثقافية، خاصة مع حركات التغريب، مستخدماً لغة ساخرة.
نُشر الديوان لأول مرّة عام 1931، ويُفهم من هذا التاريخ، الذي كان فيه أتاتورك في أوجِ مَجده، استخدام الشاعر للُغة حذرة في هذه الطبعة، حيث انتقد التغييرات التي أُجريت باسم التحديث، دون استهداف الحكومة بشكل مباشر. وتتكوّن طبعة عام 1931 من 140 بيتاً. ومما ورد في أبيات هذا الديوان: "يقولون قورومه بدلاً من حماية/ ومن لم يصدِّق فليسأل أرضروم". وينتقد هنا استبدال كلمة حماية العربية بكلمة "قورومه" التركية، لأن أتاتورك نفسه استخدم كلمة حماية في قرارات "مؤتمر أرضروم" الشهير عام 1919 أثناء حرب الاستقلال.
استمرّ الشاعر والبرلماني نهاد بوزتبة في مشروعه حول نقد ثورة الحرف، وأصدر طبعة ثانية من الديوان عام 1947، بعد أن وصلت إلى 1500 بيت، ونُشرت هذه الطبعة عندما كان عصمت إينونو، صديق أتاتورك وخليفته، رئيساً للوزراء. ويُلاحظ على هذه الطبعة أنّ لغة الشاعر أصبحت أكثر حدّة، حتى أنه ذكر أسماء بعض الوزراء ونوّاب البرلمان الذين أيّدوا ثورة الحرف، وانتقدهم بشدّة في هذه الطبعة.
وبحسب الباحثة بهانور جَران غوكشان، في دراستها التي ضمَّت الديوان الكامل لنهاد بوزتبة بطَبعتيه الأولى والثانية، فإنه بالرغم من عمل الشاعر نهاد بوزتبة كنائب لمدينة طرابزون في البرلمان التركي عن حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي)، إلا أنه لم يُعبّر عن آرائه التي ذكرها في ديوانه حول تغيير الحروف العثمانية في البرلمان، لكنَّ طبيعة عمله سمحت له بتتبّع السياسات اللغوية التي اتّخذتها الدولة حول تلك القضية عن كثب.
وذكرت العديد من المصادر أن عصمت إينونو غضب كثيراً بعد نشر نهاد بوزتبة لديوانه عام 1947، وأن بوزتبة قد تعرَّض لانتقادات قاسية من قبل الدوائر المقرّبة من الحكومة، باعتباره عدوّاً لمبادئ الجمهورية، كما تعّرض أيضاً لإقصاء شديد داخل الأوساط الثقافية التركية، حتى وفاته عام 1949.
وتُخصِّص الباحثة فصلاً من دراستها للأخطاء اللغوية والإملائية التي وقع فيها الشاعر نفسه في هذا الديوان، بعد استخدام الحروف الجديدة، كما تضمّنت دراستها أيضاً مقالات لكتّاب وشعراء تلك الفترة، دعموا بوزتبة في موقفه. ومن أبرز ما ورد في هذه المقالات، ما كتبه إبراهيم علاء الدين جوفسا، أحد روّاد أدب الأطفال، في مقالة بمجلة "يديجون" عام 1947، ذكر فيها أن أكثر من نصف ديوان "قصيدة الشجرة"، كان لوماً وشكاوى ضدّ الظّلم الذي لحق بالتركية. كما قال إن التصفية المتطرّفة التي حدثت للغة التركية، مثل إزالة الكلمات العربية والفارسية، تمّت بطريقة غير مناسبة، وأضرّت كثيراً باللغة التركية.
تعرّض لهجوم قاسٍ باعتباره عدوّاً لمبادئ الجمهورية
وقد نشرت الروائية خالدة أديب في صحيفة "أكشام" عام 1947، مقالاً حول ديوان نهاد بوزتبة، أشادت فيه بلغته الجميلة وبالنقد الذي قدَّمه حول التركية المُصطنعة التي تهدّد المجتمع. كما نشر زوجها الكاتب والسياسي عدنان أديفار في جريدة "وطن" عام 1947، مقالة أشاد فيها بخليل نهاد، وذكر أنه لم يستخدم الإهانات والسبّ في شعره، وأن الشكوى الأولى للشاعر كانت تتعلّق بـ"اللغة"، حيث انتقد بشدة التغييرات التي تعرّضت لها في تلك الفترة.
وفي مقالة نُشرت في صحيفة "أكشام" عام 1947، لفت الكاتب والصحافي فالا نور الدين النظرَ إلى نقطة مهمّة، حيث ذكر أنّ الشاعر خليل نهاد بوزتبة ليس إنساناً شرقيَّاً لا علاقة له بالحضارة الغربية، بل على العكس، فهو يعرف الفرنسية لدرجة الترجمة. وأنه يجب النظر إلى كتابه نظرة مختلفة. كما دافعت أسماء ثقافية أُخرى عن ديوان "قصيدة الشجرة"، مثل الشاعر فاروق نافذ تشامليبِل، والروائي بيامي صفا.
إذا نظرنا إلى السياق الذي كتب فيه خليل نهاد بوزتبة ديوانه، فيجب الإشادة بموقفه، لأنه عبَّر عن موقفه من مسألة تغيير الأبجدية العثمانية بشجاعة، في ذلك الوقت، وانتقد بشدّة ثورة الحرف، وأخطاء اللغويين في تلك الفترة، والاضطرابات في نظام العدالة، والعِداء للماضي أثناء حدوث حركة التغريب، حتى أنه انتقد في ديوانه منع ارتداء العمامة والطربوش واستبدالهما بالقبّعة الغربية، إذ يقول: "تُرك الطربوش والعمامة/ وصارت القبّعة على الرأس/ لكنَّ هذا الرأس لم يتغيّر".
وقد واجه الشاعر صعوبات كبيرة بعد نشره لهذا الديوان، وتدهورت صحّته بسرعة، قبل أن يُعثر عليه ميتاً في منزله بأنقرة عام 1949، أي بعد عامين من إصدار الديوان، وذكرت بعض المصادر أنه شرب الكثير من الأدوية وانتحر.