كريس هيدجيز.. موعظة غزّة وضرورة مواجهة "الشر العالمي"

22 مايو 2024
جانب من مخيم الاحتجاج التضامن مع غزة الطلابي في "جامعة برينستون"، (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- كريس هيدجيز ينتقد بشدة ما يعتبره إبادة جماعية في غزة، مستخدمًا منبره لتوعية الجمهور الأميركي بالأوضاع هناك، ويتضامن مع ضحايا الحروب عبر مقالاته ومحاضراته.
- في "موعظة غزة"، يعرف هيدجيز المثقف الحقيقي بمقاومته للقيود المحلية وتضامنه العالمي ضد النخب العالمية، مشيرًا إلى الصمت والتواطؤ من المؤسسات تجاه الظلم.
- يعتبر نفسه متأثرًا بمفكرين مثل بول تيليش ورينهولد نيبوهر، ويستلهم من المسيح كنموذج للمقاومة ضد الظلم، مستمرًا في تحدي الأنظمة والمؤسسات من خلال أعماله الصحفية والأدبية.

يُعدّ كريس هيدجيز Chris Hedges، المفكّر النقدي والصحافي والقسّ الأميركي واحداً من أشجع وأجرأ الصحافيّين والكتّاب الأميركيين والغربيين عامة، حيث يكتبُ بشكلٍ يوميٍّ ودون خوف من العواقب على مدونته الخاصة، مُعرّياً وفاضحاً ما يسميه هو نفسه الإبادة الجماعية ضدَّ أبناء غزّة التي يرتكبها "خونة الهولوكوست"، على حدّ تعبيره. ألّف مقالات عالية الجرأة ومثيرة للجدل بالإنكليزية، أدانت حرب الإبادة في غزّة، وكان من أبرزها المقالة - المحاضرة التي نُشرت بعنوان "موت إسرائيل". كما أجرى سلسلة من الحوارات مع ناشطين وباحثين ومفكّرين، من بينهم الباحثة الفلسطينية والمحامية المدافعة عن حقوق الإنسان والأستاذة الجامعية نورا عريقات، من أجل شرح حقيقة ما يجري في غزّة للجمهور الأميركي.

ألقى كريس هيدجيز في الثامن والعشرين من نيسان/ إبريل الماضي خطبة فريدة، سماها "موعظة غزة"، في مخيم احتجاج تضامني ضدّ العدوان، نظّمه طلاب كلية اللاهوت في "جامعة برينستون"، قدّم فيها تعريفاً جديداً للمثقف على أنّه مثقفٌ كونيٌّ عابر للحدود والثقافات والقوميات والأديان يتمرّد على قيوده المحلّية وينخرط في تضامن عالمي أكثر فعالية مع ضحايا الحروب التي تشنها النخب العالمية، كما لو أنّه يعلن شكلاً جديداً لعولمة الثقافة المهمّشة من أجل إرساء مقاومة حقيقية وفعّالة قادرة على مواجهة عالميّة لما يسميه هو نفسه "الشر العالمي" للنخب التي تشنُّ الحروب وتقتل الناس من أجل مصالح خاصة.
 
لم يحدث أن وجّه شيخ مسلمٌ أو قسٌّ مسيحيٌّ خطبةً أو موعظةً للطلاب في جامعة عربية حول الإبادة الجماعية التي تحصل في غزّة، أو غيرها من الحروب والأحداث الكبرى التي عصفت بمنطقتنا، ذلك أنَّ الهامش الديمقراطي شبه المنعدم في الجامعات العربية يمنع حصول شيء كهذا. خطيب الجمعة المسلم والقس المسيحي كلاهما موجودٌ ضمن دائرتي المسموح والممنوع، ويحتاج الأمر إلى هامش ديمقراطي توجّه فيه كلية للاهوت ككلية "جامعة برينستون" دعوة لمفكّر وصحافي وقسيس كي يلقي في مخيم احتجاج في قلب الجامعة، وأمام طلابها المحتجين، موعظةً سماها "موعظة غزة"، تضامنَ فيها مع غزّة، مُديناً المجازر المتواصلة، ومؤكداً أنَّ المتديّن الحقيقي هو الذي يقف في صف الضحايا ويعاني معهم ويدافع عنهم، وأن موقف طلاب الجامعات المناهض للإبادة أمر خارق للمألوف تُعقد عليه آمال كبيرة. لهذا يجب الإصغاء إليهم والاهتداء بما يفعلونه، لأنهم يمثّلون الضمير الذي لم يُلوث بعد، ويحيون روح التمرد الحقيقية ضد "الشرّ الراديكالي".

يتجلى الشر العالمي في ما يحصل اليوم من إبادة في غزّة

تحدّث هيدجيز في موعظته عن حروب غطّاها في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة البلقان، قابل أثناءها أفراداً عظاماً واستثنائيين ينتمون إلى أديان وعقائد وسلالات وقوميات مختلفة، وقفوا في وجه العنف وعارضوا جرائم الإبادة وتضامنوا مع المظلومين. مات بعضهم ونُسي بعضهم فيما بقي بعضهم الآخر مجهولاً. ولقد كان هؤلاء الأفراد الأفذاذ، رغم تباين ثقافاتهم وخلفياتهم وانتماءاتهم، يتّصفون بسمات مشتركة هي الالتزام العميق بالحقيقة والمناعة ضد الفساد والشجاعة وعدم الثقة بالسلطة ورفض العنف والتعاطف العميق الموجّه إلى أشخاص مختلفين عنهم، تعرّفهم الثقافة المهيمنة بأنّهم أعداء. 

يمتلك كريس هيدجيز شجاعة استثنائية، خاصة أنَّ الشجاعة في عصرنا تعني - كما يؤكد في الموعظة - نبذ هذا العصر، وعلاقات العمل فيه، واعتناق رفض الشر، إذ أكّد للطلاب أنَّ مقاومة الشرّ الراديكالي، كما يفعلون، تتطلّب تحمّل حياة تعني، بمنظار المجتمع الأوسع، الفشل وتحدّي الظلم على حساب وظائفهم وسمعتهم ودراستهم، وأنّ موقفهم المشرّف سيحوّلهم إلى هراطقة طوال حياتهم. وإن الأمر الأكثر أهمية هو ألا ينحنوا أمام الثقافة المهيمنة، والنخب الليبرالية التي ستدفعهم إلى الهوامش لتشويه ليس ما يفعلونه فحسب، بل سمعتهم الشخصية أيضاً. هنا يذكر كريس هيدجيز أنّه حين رفض حرب الخليج وشجب غزو العراق في 2003 تجنّب أصدقاؤه الذين عملَ معهم لأكثر من عَقد الاحتكاك به كي لا تصيبهم ما سمّاها "العدوى القاتلة للوظيفة".

شنّ كريس هيدجيز هجوماً لاذعاً على المؤسّسات الحاكمة: الدولة والصحافة والكنيسة والمحاكم والجامعات، قائلاً إنَّ هذه المؤسّسات تتشدّق بلغة الأخلاق، لكنها تخدم بنى القوّة، وهي متواطئة من خلال صمتها أو تعاونها مع الشرّ الراديكالي. ولقد حدث هذا من قبل أثناء الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في أميركا، وفي فترة العبودية والمكارثية ومحطّات أُخرى من التاريخ الأميركي تحوّل فيها الأشخاص الأكثر شجاعة إلى منبوذين. 

اقتطف هيدجيز في موعظته كلام عالِم اللاهوت الأميركي بول تيليش (1886 -1965)، الذي قال "إنّ المؤسّسات كلّها، بما فيها الكنيسة، هي جوهرياً شيطانية، لأنها تنقلب في النهاية على كل من يقول الحقيقة وتهمّشه". ذكرَ أيضاً المُصلح اللاهوتي الأميركي رينهولد نيبوهر (1892 - 1971)، الذي وصف القدرة على تحدّي قوى القمع بأنّها "الجنون السامي في الروح. حيث لا شيء سوى الجنون يستطيع أن يخوض المعركة ضد السلطة الشريرة والشرّ الروحي في الأمكنة العليا". إن هذا "الجنون السامي"، كما فهمه نيبوهر، خطير، لكنّه حيويٌّ ومن دونه ستضيع الحقيقة. 

تحدّث هيدجيز في خطبته عن المسيح أيضاً قائلاً إنّه لو جاء هذه الأيام لعدّوه مهاجراً غير شرعي. وهو لم يكن مواطناً رومانياً، بل عاش مجرداً من الحقوق تحت الاحتلال الروماني وعامله الرومان كشخص له لون بشرة مختلف وقتلوه في النهاية كما تُنهي حِقنُ الإعدام حياةَ السودِ في هذه الأيام. 

كريس هيدجيز
كريس هيدجيز

أكّد كريس هيدجيز أنّه يقف بين الطلاب المحتجّين الآن لأنّه يحاول أن يعيش بحسب الرسالة الراديكالية للإنجيل، وهو موجود هنا من أجل الفعل لا الكلام، وهو على يقين أنَّ المرء يمكن أن يكون يهودياً وبوذياً ومسلماً ومسيحياً وهندوسياً أو ملحداً ويحمل الصليب. ودعا إلى التضامن مع أهل غزّة، من خلال الفعل كإخوة في الإنسانية، مؤكّداً أنَّه جوهر الإيمان الحقيقي بالنسبة له، وأنه في سياقٍ كهذا، يطلبُ منّا التاريخ أن نقولَ كلمتنا، لأن كلمتنا هي هويتنا، وهي ما نحن بفكرنا وتاريخنا وحياتنا ومعنى موتنا. وهنا نقف وجهاً لوجه ضد قاتلينا الذين هم في النهاية من بني جلدتنا. 

لو عاد المسيح هذه الأيام لعدّته النخب مهاجراً غير شرعي

تكمن أهمية الموعظة - الخطبة في أنها تُلقي الضوء على أنواع رجال الدين في عصرنا، فهناكَ من هم موظّفون لدى السلطة، ويقبضون ثمنَ سكوتهم. وهناك من يمارسون الطقوسَ دون اكتراث بما يجري، لكن هناك أيضاً رجال دينٍ يحملون الصليب ومستعدّون كي يحملوه ويسيروا تحت الطائرات التي تغير وتدمّر. وهؤلاء هم القادرون على مقاومة ما يسميه هيدجيز بالشر الراديكالي والذي يتجلّى في ما يحدث في غزة الآن.

تشير الخطبة إلى من يقف مع يسوع وإلى من يقف مع المؤسّسة. وفي هذا المنظار إنَّ المؤمن الحقيقي، في أي دين، هو الذي يعارض الشر الراديكالي المتمثّل في حروب الإبادة ويعمل مع المضطهدين ويختار أن يقف في صف المسيح والثوريين والفلاسفة والمفكّرين النقديّين الكبار الذين يرفضون الشر السياسي ويعارضونه ويفككونه كي يؤسّسوا تاريخاً آخر قائماً على التمرّد ضد النخب الفاسدة من أجل خير الإنسانية. 

يذكر أن كريس هيدجيز هو مفكّر نقديّ وصحافي مستقل، وقسٌّ أميركي، حصلَ على "جائزة بوليتزر" عام 2002، و"جائزة منظمة العفو الدولية لصحافة حقوق الإنسان" في العام نفسه. اكتسب تجربة فريدة من عمله كصحافي، حيث غطى الصراعات والحروب في "الشرق الأوسط" ومناطق أخرى ساخنة في العالَم. ألّف عدداً من الكتب المهمة، بينها: "الفاشيون الأميركيون: اليمين المسيحي والحرب على أميركا" (2007)، و"لا أؤمن بالملحدين" (2008)، و"إمبراطورية الوهم" (2009)، و"موت الطبقة الليبرالية" (2010)، و"أيام الدمار والتمرّد" (2012)، و"الحرب بوصفها أعظم الشرور" (2022)؛ وهو الكتاب الذي استندَ فيه إلى تجربته الميدانية في تغطية المعارك وعبّرَ عن نظرته الخاصّة إلى الحروب وقوى الشرّ التي تقف وراءها.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون