أحداث معلّقة
لو كانت السنة أقلّ من اثني عشر شهراً،
لَعشتُ سنيناً أطولَ،
لاحتفلت أكثر بأيام ميلادٍ
وبرؤوسِ سنةٍ مضاءةٍ بفوانيس
شارعنا في المخيّم.
لو كانت الحروف تسعةً وعشرين حرفاً،
لَكانتْ شبابيكُ بيتِنا أكثر
لزادَ عددُ كلمات قصائدي وقِصصي
ولزادَ عددُ الكتب على رفوف مكتبي.
لو كانت الفصول خمسةً،
لَرأيتُ الأرض بشكل أفضل،
ولَكان للزهور ألوانٌ جديدة،
لربّما ألوانٌ سأسمّيها:
عطلوتو، مربتون،
أورارض، وزحشتري.
لو كانت الجّهاتُ خمساً،
لَوجدتُ وطني،
لَوجدتهُ يبني نفسه بعَلَمِه
ويُركّبُ حروفَ اسمه من حرفٍ واحد
ويعزف نشيده من كلّ حجر
يسقط على وتر الغبار.
■ ■ ■
لو كنتُ أعرف
أتسلّل إلى حديقة بيتنا
أسترق النظر إلى فنجان قهوتي عبر النافذة.
لا تزال آثار فمي على الفنجان
الأبيض.
لا تزال الساعة تدور بعقاربها
لا تعرف أنها ستُداوم على مشاهدة
وجوهٍ غير وجوهنا.
لن يعرف شعورَها سوى الجدار.
قلمي لا يزال على مقعد الكتابة،
والصفحات البيضاء تكاد تسقط،
يُمسكها الصَّمتُ الثّقيل كلّما هبّت ريحٌ
صفراءُ من جهة الحقول.
لو كنتُ أعرف، لكتبت على الورقة الأولى:
بيتٌ، بئر، بُذور السرو والصنوبر،
علّ البئرَ يسقي البُذور ويصير بيتُنا
حديقةً أو غابة
أُشاهدها من بعيدٍ
من مخيّم اللّاجئين.
■ ■ ■
جَدِّي، بساط الريح
في الساعة العاشرة بلا دقائق،
هبطتْ طائرة ٌعلى جدار غرفتي،
حطّت بثقلها على صورةِ جَدِّي
بعجلاتِها الخشِنة،
سرقتِ اللونين الأبيضَ والأسود،
نامتْ على سريري
وتلحّفتْ بنظراتي الخائفة.
صحوتُ فوجدتُ تذكرةً لي
على السرير
بدون وجهةٍ أخيرة.
مسموحٌ لي اصطحابُ حقيبةٍ واحدة:
صورةُ جدي،
بساطُ ريحٍ يحمل الطائرة.
■ ■ ■
لماذا تبكي العينان معاً؟
لماذا تبكي العينان معاً؟
عندما أفقد قدماً،
تبكي عيناي.
عندما أضيّع مصروفيَ
اليوميّ في الشارع التُّرابي،
تدمع عيناي.
عندما أرنّ جرس بيتِنا ولا يردّ أحدٌ،
تبكي عيناي. أنسى
أنّني وُلدتُ وحيداً.
عندما أَتّصِلُ بصديقي ولا يردّ،
أبكي كثيراً،
أنسى أنه مات تحت ركام بيته.
لكن لماذا عندما أفقد عينيّ، لا يبكي أي شيء في جسدي؟
هل جفّتِ الماءُ في كلّ فُروع جسدي؟
لم يبكِ غيرُ ساعة الحائط التالفة ليلاً،
بكتْ وقتاً:
ثانيتين
أو ثلاثاً!
■ ■ ■
القطار
عندما تفتح فمَكَ لتبتسم،
تأكّدْ أن النوافذ البيضاء نظيفة.
وإلّا، فضَعْ ستائر أصابعك فوقها
حتّى تسلم من عواصف التهكم.
تلك المحطّةُ حيث الدرج الطويل،
امْشِهِ على مَهَلٍ، فقد تدوس دمعةً
سقطت ولم تجفَّ بَعْدُ،
أو تدوس أَثَرَ نعلٍ لرجُلٍ لن يمشي كثيراً
بعد اليوم.
القطار يصفر كلّ مرّة، يعتقد أنّ حبيبته
هناك تنتظر وأنّه قد وصل محطّته النهائية.
هو أصلاً لا يذكر متى وُلد وإن كان كَبرُ.
الكلُّ يركبه ليلقى صديقاً أو ليذهب إلى حفلة عيد ميلاد،
لكنْ هوَ لا عيدَ لهُ ولا مواعيد.
القطار ذو العيون الأماميّة وعشرات العيون الجانبية
ينظر ولا يرى.
ظلامٌ كثيف يكسوه تحت الأرض
يمرّ ببعض الإعلانات المُضيئة،
يتمنّى لو يستريح قليلاً ليتنفّس الهواء قرب النهر،
ولو يتوقّف صوتُ السائق عن إعلان الوجهة القادمة
كلّ مرة.
"أين وجهتي أنا؟ أين عيد ميلادي؟
سئمتُ شرب الكحوليّات.
أريد أن أذوق رشفةً من الثلج
في حانات القرية".
أمّا أنا، فسأذهب إلى دائرة القطارات
وأطلب منهم إذناً بأخْذ القطار
إلى سكّة رملية في الحقل المزروع
ذرة وفراولة وباذنجان
ونشرب سيجاراً قرب نافورة الماء
فقطار العمر، كمّا قال لي جدّي،
يحبُّ الخرير لأنّه يذكّره بأصوات سمعها
قبل أن يغادر رحِم أُمّه.
■ ■ ■
بينما هو ممعنٌ في الفَناء
تحزمُ البيوتُ حقائبَها.
يضرب الغبارُ له خيمةً في زاوية.
والصدأُ يحطُّ بأثوابه المهترئةِ
على الصّنبور والمِلعقة.
يخطف من الماء أرجوحته الناعمة
بينما الهواءُ ينام على أرض الملعقة الخشنة.
لا مرآة إلّا في النهار.
كلُّ شيءٍ في الغرفة يسترُ عورته.
لا عصفورَ ولا مذياعَ يلفت انتباهَ الأشياء.
الآن، كلٌّ يمضي وقتَه في تتبُّع اهتراءِ غيره
بينما هو ممعنٌ في الفَناء.
■ ■ ■
ميلادي التاسع والعشرون
كيف السماء؟
ككأس شاي سُكَّرُه خفيف.
وكيف البحر؟
كسريري في العِلِّيَة عندما أنام مفتوح العينين.
وكيف المساء؟
كقهوة ثقيلة.
وكيف الصباح؟
كصوت فيروز عندما تستيقظ من نومها.
وكيف الغيوم؟
كورق الميرميّة في كأس الشاي.
وكيف رائحة الهواء؟
كقُطْفِ عنبٍ لامسَ الأرض عندما دخلت قِطّة بستان الجيران.
وكيف الورق الذي تكتب عليه؟
كسقف بيتنا عندما أتذكّرك.
وكيف أنت؟
كما كنتُ قبل أن أولُد.
كتب المؤرّخ يوماً:
"اليوم هو السابع عشر من نوفمبر.
نسيتُ السنة.
لا يهمّ.
لن يقدّم ذلك أو يؤخّر.
أمطرت الغيوم قطراتِ وجعِها في البحر،
والتقطتِ السماءُ صورةً للأرض بعد البرق،
علّقتْها على جدران الأنهار البعيدة،
لا يصلها صوتُ الحجارة وهي تُثرثر على الجدران
ولا ضوءُ شاشات عرض المباريات في الشارع.
في هذا اليوم،
خرج ضوءٌ حاجِبُه كثيفٌ.
تكسَّر بيضُ الطيور عندما سقطت من الحاجب شَعرةٌ.
غرست أوراقُ الخريف رأسَها في الأرض.
في هذا اليوم تجمَّعت الحروفُ على الشاطئ
وبَلَّلَ موجُ البحر دقّات الساعة المعلّقة في جيب القمر.
في هذا اليوم وزّع بائع الحلوى ما لم يبعه آخرَ النهار
على الأطفال الجالسين على عتبات منازلهم".
كم بلغتَ من العمر الآن؟
تسعةً وعشرين.
ماذا أنجزتَ خلالها؟
لا زلتُ أحاول عَدّ أصابع الشمس
عندما تدخل بيتنا في المخيم،
ولونَ وجه القمر عندما يخسر
لعبة النرد مع البحر،
وملامحَ وجه ساعتنا
عندما تفرغ البطاريات وتتوقّف.
* شاعر من فلسطين