استمع إلى الملخص
- سقوط نظام الأسد يمثل نهاية لحقبة قمعية في سوريا، حيث كشف عن جرائم النظام وفضائحه، مما جعل سياساته غير ذات أهمية مقارنة بهويته كقاتل.
- تأثير سقوط النظام السوري امتد إلى لبنان، حيث فقد "حزب الله" طريق إمداده العسكري، مع توقعات بظهور المزيد من الأدلة على تورطه في لبنان.
لم ينتظر أحدٌ الحدث السوري، بدا وكأنّه من خارج الزمن، كأنّه فقط لعبة مكان. لم ينتظره أحدٌ أو أنّ الجميع انتظروه بلا جدوى، طال ذلك حتى أُنسي ولم يعُد في الحساب. لم تكن لديه مقدّمات، أو أنّ تراكُم المقدّمات، من دون أن تفعل، جعلها غير قائمة وكأن لم تكن. لم يعُد أحد يلتفت إلى بوادر، صارت لفرط تتابُعها كأن لم تحصل.
يمكننا القول إنّ الأمر كان كذلك، لا في سورية وحدها، ولكن بالدرجة نفسها في لبنان أيضاً. صلة سورية بلبنان بقيت أيضاً من خفايا الوضع. منذ خرجت سورية من لبنان، صارت موجودة فيه على نحو غامض، صارت من مفردات الوضع اللبناني من دون أن يستطيع أحدٌ تقديرها. لقد خرجت من لبنان إثر مقتل الحريري، لكنّها عادت إليه في مقتلات أُخرى، بدا لبنان مفتوحاً أكثر لها. إنّها الآن موجودة فيه كحتف موعود. كان اسمها قائماً على مصارع عدّة، بدت وكأنّها ثأر لهذا الخروج الذي أملته على نفسها. صنعته لنفسها، وهي الآن تعاقِب لبنان عليه. لم تكن لها حرّية القتل فحسب، بل حقّ القتل الذي طالما مارسته، على رئيسَين منتخبين ورجالات من الأركان، واستمرّت فيه. بقيت موجودة بأعتى طريقة وأعنف أسلوب. مع ذلك لم يكن مقدوراً معرفة حدود ذلك، ولا حجمه أو طبيعته.
بدت مطرودة من لبنان، والذهاب مجرّد الذهاب يُعتبر تحدّياً وجرأة عليها. في الوقت الذي كان لبنانيون يحاربون فيه إلى جانب النظام السوري، ويستقبل لبنان ملايين السوريين، وتنعقد على الحدود المفتوحة علاقات اقتصادية وعسكرية وتهريب واسع. كانت سورية موجودةً يومياً في لبنان، ولبنان موجود يومياً في سورية. وواضح أنّ بين البلدين ما يمكن ردّه إلى انهيار الاثنين، وما يتيحه هذا الانهيار من مواضعات شتّى، ومن انتهاكات لكلّ يوم.
ننتظر في الأيام القادمة ظهور أصابع النظام الأسدي الدامية في لبنان
سقط الأسد. هذا ما يبدو الآن أكثر من سقوط رئيس، إنّه تقريباً انتهاء قرن كامل، أو ما يقارب قرناً كاملاً. إنّه انهيار التاريخ السوري كما وصل إلينا، وكما عايشناه وعرفناه. التاريخ هذا كلّه الآن على الأرض، إنّه صيدنايا ومئة ألف مفقود، و12 ملياراً للأُسرة الأسدية، وبطبيعة الحال نظامٌ أمني. لم يكن سوري، أيُّ سوري حرّاً أمام النظام، كان على المجتمع كلّه أن يكون متّهماً ومسؤولاً، وما لم يكن كذلك فهو غير موجود، أي مسحوق لدرجة الاختفاء، لدرجة فقدان الاسم والصفة والحضور نكرةً. بطبيعة الحال حاول النظام السوري أن يُحيل لبنان كذلك، بالتأكيد كانت سنوات الاستيلاء السوري محاولة لجعل لبنان بالوضع ذاته، إمحاء المجتمع وتحويله إلى اختفاء وإلى نكرات، بدون وجود أو حضور أو أسماء.
الآن، بعد سقوط الأسد وانكشاف فضيحة نظامه، لم يعُد أحد يسأل عن سياسة النظام ولا عن مواقفه، ولا عن سياسات خصومه أو هوياتهم. لقد توقّف الزمن عند رعب الفصام الأسدي وفظائعه. كنّا هكذا أمام جريمة موصوفة، جريمة ليس إلّا، ولم تعُد تعنينا بعد مواقف النظام من الشرق والغرب، من "إسرائيل" أو أميركا. لم تعُد تعنينا سياساته ومبادئه، فقد بدا أنّ القتل وحده هو هوية هذا النظام، وأنّه بلا سياسات أو مواقف، فهو ليس إلّا قاتلاً، وأياً كانت مبادئه فهي ليست سوى جزء من جرائمه، سوى اسم آخر لها.
يقول الشيخ نعيم قاسم، أمين عام "حزب الله"، الذي لا يفاجئنا أنّه لم يدافع عن نظام قام بخدمته عسكرياً عدداً من السنين. كان هكذا مثل الجميع الذين، أيّاً كانت صلاتهم بالنظام الأسدي، لم يجرؤوا عن الدفاع عنه. يقول الشيخ إنّ حزبه فقد هكذا طريق الإمداد العسكري. لا نعرف ماذا فقد غيره من أصدقاء النظام، لم يقولوا لكن الشيخ سمّى بدقة ما فقده، طريق إمداد عسكري، والأرجح أنّه طريق إمداد أوسع من ذلك، إنّه طريق إمداد إقليمي ودولي، عسكري وغير عسكري. لقد فقد "حزب الله" ما كانته سورية في لبنان، وهذا جزء منه، جزء من "حزب الله" أيضاً.
لقد صار النظام الأسدي اليوم فضيحة لبنانية أيضاً، ويمكن أن ننتظر في الأيام القادمة أن يتكشّف ذلك، وأن تظهر أصابع النظام الأسدي الدامية في لبنان. لم تكن سورية في لبنان أقلّ منها في سورية نفسها، فبالروح الذي أخفى فيها النظام الأسدي مجتمعه، لا شكَّ أنّه ما كان سيفعل شيئاً آخر لمجتمع وبلد، طالما اعتبرهما تحت ولايته، وطالما سلّط عليهما استبداده، وأخضعهما لازدراء كامل، اتجاه من يستتبعهما، ولا يشقّ عليه أن يعاملهما بالدونية التي يعامل بها شعبه.
يختفي الأسد ومعه يختفي حلم هيمنة على الجار الأقلّ بداوة، والأقلّ فروسية، والأقلّ إمكاناً. لبنان السوري المختفي سيظهر أيضاً فضيحةً كبرى، موقعَ نهب وقتل وانتهاك. انتظروا الأيام المقبلة.
* شاعر وروائي من لبنان