ليس من الدارج في ثقافتنا العربية أن نجد معرضاً تتقاطع ضمنه التجربة الجمالية والتشكيلية مع محصّلة الأبحاث التاريخية. لكن معرض "وِرد" للمصوّر الفوتوغرافي برينو حاجي الذي اختتم في 18 آذار/ مارس الجاري في "المركز الثقافي 32 مكرر" بتونس العاصمة قد أقدم على تجسيم مبادرة كهذه، حين استضاف المؤرّخ التونسي لطفي عيسى لمسامرة فكرية تناول فيها مواضيع تتقاطع مع مقولات المعرض وتقع صلب انشغالاته المعرفية التي تبرزها مؤلفات عديدة في هذا الإطار مثل: "أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ" (1993)، و"مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر" (1994)، و"مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17: الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي" (2005)، و"كتاب السيَر: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار" (2007). عن هذا التقاطع تحدّث صاحب كتاب "أخبار التونسيين" إلى "العربي الجديد".
■ كيف وجدتَ فكرة دعوتك لتقديم مسامرة فكرية حول "صلحاء المغارب" على هامش فعاليات معرضٍ فوتوغرافيّ؟
استجبتُ طبعاً للدعوة التي وُجّهت لي، بل ورحّبت بذلك. فقد أغرتني صدقاً قيمة المنجز الفنّي الفوتوغرافي لهذا المبدع الفرنسي ذي الأصول الجزائرية، الذي حاك بتدبير جمالي مُلهم نسيجاً لحالات صفاء وسكينة أخاذة تقطع في أزليتها مع ما ورّطنا فيه الإقبالُ افتراضياً، وبشراهة لا حدّ لها، على استهلاك تافه المحتويات الرخيصة، مقترحاً جولة روحية تطهيرية تدفع بنا نحو عالم جلّلته عتمة مهيبة يدعو السالك إلى مواجهة أعطاب ضاقت بها بشريّته، تحيل على أسئلة أنطولوجية تبحث عن معنى الوجود والحياة والموت والجنون في انزواء يضجّ بأصوات مبهمة توقظ في متلقيها عوالم جوّانية حميمة.
■ هل توصل المادة البصرية للمعرض أهم الأفكار التي توصلتَ إليها باحثاً؟
أعتقد أن بلاغة الصور/اللوحات المعروضة واقتصاد عبارتها الإبداعية المتدبّرة والمترصّدة جمالياً بمتلقيها تضاهي ما تتيحه المراكمة المعرفية أياً كان مجالها، بل وترتقي عليها أحياناً. وهذا لا يدخل بالمرة تحت طائلة التفاضل بين المقترحين، حتى وإن تكامل الجهد الفكري المعرفي مع حدوس المبدع الذي وإن نهل من ذات المعين، فإن جهده الاستثنائي يَمْتَحُ من قابلية منتجه لدفع المتلقي إلى الانخراط معه في تجربة إعلاء نفسانية رفيعة، في حين تجد تجربة البحث المعرفي أو الفكري في الفضول قادحاً يدفع إلى الغوص عميقاً في تلافيف الظواهر البشرية المختبرة وعدم الركون إلى مخاتلة ما يعرضه علينا سطحها.
لذلك أجدني جدّ ممتن إلى المنظّمين الذين احترم كثيراً حسّهم الجمالي والتزامهم المدني أيضاً. فقد وفّر لي عرضهم فرصة التفكير مجدّداً في مواضيع ركنتها جنباً منذ ما يزيد عن العشر سنوات تحيل على مواضيع المقدس في علاقته بالكتابة التاريخية، وهي قراءة تعيد زيارة مدوّنة المناقب أو السير، لتربط بينها وبين عودة الديني وإعادة الاعتبار للمضامين الروحية بعد رفع القداسة عن الفعل السياسي.
كما تبتّ في مدلول التجارب الإثيقية ذات المضامين الجمالية الرفيعة، وأشكال التشوّف إلى الخلاص والعلاقة بالحياة وما بعدها. فقد تم التساؤل عن الفرق بين المَنقبة، والترجمة، والمأثرة، والمروية العجائبية، ومخزون الذاكرة الشفوي؟ واستشكال مضامينها في تطوير معاني المخالطة، والوساطة، ونقل المعارف أو التجارب المعيشة، وإقرار التجمعات المتنقلة، وبناء الشبكات المجالية، والجوس عميقاً في سُمك الموروث الجيني الثقافي للمجتمعات المغاربية، عبر إعادة زيارة معاني الصحبة، والسياحة الروحية، والانتماء، والانقلاب من الإرادة إلى المشيخة. وذلك وفقاً لما استفاضت في تفكيكه المناويل السوسيوأنثروبولوجية لماكس فيبر وغورغ زيمال ومارسيل موس، وعاودت زيارتها العديد من البحوث المعاصرة.
كما أن البحث في موضوع التصوّف أو الصلاح في علاقته بنمط إنتاج المجال يحيل على مدلول القداسة ضمن الديانة المسيحية وأشكال تطهير مواضع التعبد وتقديس الصلحاء في تشابكها مع بقية الفضاءات الدنيوية، وخاصة تلك التي يسيطر عليها جهاز الدولة وأعوانه دفعاً باتجاه إقرار السكان وعقلنة تدبير المعاش.
على أن مسألة إعادة الاعتبار للديني تحمل في طياتها انتقالاً فارقاً للعلاقة الجمالية بالله من موقع الخشية إلى مصاف المحبة، تقصّياً لمدلول الرحمة، وخاصة ضمن مجتمعاتنا الراهنة التي تبدو شديدة التواصل افتراضياً، وضعيفة التضامن والصمود واقعياً. وهو ما يدعونا إلى مزيد تعميق التفكير حول الجدوى من تطوير أجيال حقوق الإنسان، وحماية المحيط، والتنمية البشرية، وتملّي تجارب "ثيولوجيا التحرير" التي خاضتها كنائس أميركا اللاتينية، وجمالية الحضور في تجارب الصمود المدني والمقاومة الافتراضية السلبية Passif Networks ومجتمعات اللاحركة No-Mouvement وفقاً لما عرضته علينا بحوث أندريه فوشيه التاريخية، وأصاف بيات الاجتماعية، وكذلك الآثار الأدبية لكرسيان بوبين.
■ يقدّم هذا التنافذ بين المعرفي والجمالي ومن خلال هذا المعرض نموذجاً (نادراً) للقاء بين مجالات ثقافية وفكرية قلّما يُكتب لها التلاقي عربياً. كيف تفسّر هذه القطيعة بين مجالات يمكن أن تستفيد من تجارب بعضها البعض؟
يمكن أن يتّخذ هذا المختبر الذي قاطع بين المعرفي والجمالي وضمن معرض فوتوغرافي تشكيليّ احتضنه "فضاء 32 مكرّر" بتونس العاصمة، طابعَ المبادرة التي تكتسي بعداً تجريبياً تحت سمائنا، لكن تجارب التنافذ مبذولة، بل وكثيرة الورود ضمن المشهد الثقافي والجمالي الغربي على شاكلة تظاهرة "مواعيد التاريخ" التي تعقد سنوياً بمدينة بلوا Blois الفرنسية، وهي تظاهرة تحتفي هذه السنة بمرور ربع قرن عن ميلادها، نسلت من رحمها مواعيد أخرى مشابهة لها، كتلك التي تنتظم بالمغرب الأقصى منذ قرابة العشر سنوات.
■ أخيراً، لو أنه طُلب منك أن تختار ثلاثة كتب تونسية في التاريخ تعتقد أنه من الجيّد أن تنطلق منها معارض، فماذا تقترح؟
سؤال طريف حقاً، يعيدني إلى فكرة سبق أن عرضتُها على أحد الأصدقاء المهتمين بالنقد التشكيلي، مفادُها الاشتغال على مناقب أحمد بن عروس (ت 1463م) تونسياً وعلى رباعيات عبد الرحمان المجذوب (ت 1569م) مغربياً، قصد القراءة جمالياً في مدلول "الوَلَهِ" باعتباره شكلاً استباقياً للتحذير من حصول الأزمات داخل حواضر المغارب.
كما قد يكون من المفيد أيضاً العود على "إتحاف" أحمد بن أبي الضياف (1872م) لفهم مظان التنفيس الوجداني الذي تقصّاه مؤلف هذه اللوحة الأدبية الـمُذهلة بغية تشغيل آليات الصمود الذاتي ضد جميع نوازع البغي والتسلّط التي عاين كارثيّتها حين اشتغل موظفاً سامياً ضمن أروقة البلاط الحسيني على مدى نصف قرن من الزمن. أو كذلك توظيف مدوّنة الخرافات الشعبية بغرض تعقّب ما سميته ضمن الفصل الأول من كتاب "أخبار التونسيين" بزمان التأسيس والأسطرة تونسياً، وذلك بأدوات الفنان التشكيلي.