للأهل في غزّة

23 سبتمبر 2024
البحث بين أنقاض مدرسة الزيتون بغزة بعد غارة إسرائيلية، تسببت باستشهاد 22 فلسطينياً (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **البحر كملاذ للروح:** لجأ الكاتب إلى البحر بعد فترة من الألم، حيث سبحت كل يوم لمدة خمسة أسابيع، مما أضفى على روحه صفاء وراحة.
- **التحام الروح مع الأهل:** تذكر الكاتب أهله في غزة، وتمنى عناقهم وتقبيلهم، مشيراً إلى أن تفاصيل غزة ستظل محفورة في خياله.
- **الفاجعة والذكريات المؤلمة:** تذكر الكاتب الفاجعة التي أصابت ابن عمه جبر الشاعر، وأكد على حق أهل غزة في الحزن وضرورة تذكر نزيف الدم البريء.

توقّفتُ لالتقاط الأنفاس الملتهبة بالأوجاع وذهبت إلى البحر، وسبحت كلّ يوم طيلة خمسة أسابيع. سبحت حتى هجرتني الأثقال، ورأيت الكثير من سعة أكبر من أن أظفر بكامل تلابيبها. بين تتابُع الأمواج وبينما الجسد يتعايش مع جاذبية البحر، وسطوع الشمس، وبهاء النور، رأيت غزّة وأهلي فيها. رأيت ابتسامة أخي سعيد أبو العبد، وحنان أخي عادل أبو عبد الله، ودفء أخي محمّد أبو هشام، ورأيت صمود أخواتي نزهة أمّ رامي، ورويدة أمّ حسن، وعطاف أم سعيد. رأيتُ صفاء أحاسيسهم في رفح؛ فكلُّ شيء أمام المطلق من الحياة والموت يتساوى، والصفاءُ طريقة من تجلّى في الطريق.

رأيت كلّ أخواتي وإخوتي وهُم في خيامهم، وقد حملوا بيوتهم التي تركوها مكرَهين وقد تدمّر منها ما تدمّر. راحوا يتمتمون ويرتّلون بآيات من القرآن: "ولقد نعلم أنّه يضيق صدرك بما يقولون، فسبِّح بحمد ربّكَ وكُن من الساجدين"، فقرآنهم جنّتهم وروحهم في لغتهم، أقربُ إلى قلوبهم من عبثِ الأقدار. هنا حالةُ التحام بشري صوتي دلالي يضفي على الروح طمأنينة من يرى الأبد في الحياة أو بدونها. ها هُم بكامل صفاتهم، بهدوئهم المعهود يملؤون بحري من ماء عيونهم. أودُّ لو أعانقهم، لو أقبّلهم، لو أهمس في آذانهم: أحبّكم جميعاً.

ستلاحقنا غزّة بكامل تفاصيلها، سنرى دموع أطفالها في مائنا، وفي سيرة الهواء، وسنرى جرح النساء فيما نفكّر وفيما نشتهي، وسنحسّ بحرارة الرجال وشموخهم وفزعهم في خيالنا، خيالنا المجروح من عمق ما فكّر في أحبّتنا الذين ظلمهم العالَم وضاقت عليهم الأرض، لكنّهم ما يئسوا، وفي الهيام في نور الله وكلّ الاحتمالات هناك، من أقاصي العدم إلى ذروة الوجود، ما يضيء أحلك طبقات الروح.

بينما الإنسانية تدخل مراحل قديمة جديدة من البلادة والظلاميّة

فجأةً أتذكّر عينَي أحد أبناء العمومة، جبر الشاعر؛ عينيهِ الخضراوين أو الزرقاوين، خلف النظّارة وهي تراقب الريح القادمة من الغرب في مدينة رفح. أدقّق في الخبر الذي نشره على صفحته على فيسبوك عن استشهاد ابنته شيماء وزوجها محمود الشاعر (ابن الخال فوزي الشاعر)، وغيرهم، في قصفِ خيمتهم بقنابل أميركية من طراز جهنّم الصهيوني، ثم ينعى ابن الخال فوزي عصام الذي استشهد في المذبحة نفسها. لغةُ جبر تلفظ أنفاسها. أتصوّر وجهه الذي لم يعد ذلك الذي يدقّق في الريح القادمة من جهة الغرب في رفح. أحسُّ بنار الفاجعة وهي تأكل عيون القلب وتأتي على سطوع الروح في الوجه. أتصوّر الفاجعة، وأفجع بكلّ أهوال غزّة، أهلي والجميع الذين نحبّهم هناك.

أدقّق في الصور. إنّهم يشبهونني، أنا الولد الذي كنت أتسكّع في شوارعهم نفسها في حيّ السلام المدمّر في رفح المدمّرة. لقد غيّبهم القتل شباباً وشابّات، هؤلاء الأبرياء النائمين للتوّ على حافَة الحياة في خيامٍ مهترئة في مواصي خانيونس.

كلُّ شيء يتفتّت أمام العبث والخراب والحزن والغضب. العقل يحاول أن يتماسك ويضبط لغته: هل تؤذيكَ ضربات الحزن فلا ترى إن كنتَ أنتَ أنتَ أم أنّك ظلال لما كنتَ تحسبه نفسك؟

يحقُّ لجبر ولملايين الناس في غزّة أن يحزنوا. يحقّ لهم أن يلجؤوا إلى كلّ ملاجئ الروح علّ رشداً ما يسندهم أمام الفقدان المتكرّر المفجع، وعلينا نحن البعيدين أن نتذكّر، كذِكر من يتذكّر نفسه بينهم ومعهم، يتذكّر نزيف الدم البريء وعنجهية الظلم العنيدة، بينما الإنسانية، الغربية على وجه التحديد، تدخل مراحل قديمة جديدة من البلادة والظلاميّة تجاه صنيعتها المرعبة "إسرائيل".

كنتُ أريد أن أكتب عن حضيض الحضارة وعنجهية التكنولوجيا في سيرورة الرعب المستمرّة، لكنّ الحبّ أبى إلّا أن يُسجّل خاطرةً للأهل في غزّة.

لكلّ الناس هناك، نحبّكم بأحيائكم وأمواتكم، ونحبّكم من سعة الأمل، ومن شدّة الغضب.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون