لوركا في المغرب: هل تسبّبت رحلة الشاعر بإنهاء حياته؟

17 مارس 2023
فديريكو غارسيا لوركا في جدارية بنيويورك، 2020 (Getty)
+ الخط -

خلال إحدى ندوات الملتقى الأول لـ"جمعية أصدقاء لوركا" في مدينة تطوان المغربية مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحدّث الكاتب والمسرحي المغربي، محمد الدحروش، عن رحلة "فرقة لاباركا للمسرح الجامعي" إلى شمال المغرب، واحتمال أن يكون فديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936) قد زار برفقتها منطقة "الحماية الإسبانية" في المغرب، خصوصاً أنّه كان بمثابة المُرشد لهذه الفرقة التي تشكّلت في حضن "جامعة مدريد المركزية". هذا السؤال المحيّر رافقني لأعوام قبل أن تُجيب عنه بعض الوثائق وكتابٌ للباحث الإسباني ميغيل كاباييرو بيريث بعنوان "لوركا في أفريقيا: يوميات رحلة إلى منطقة الحماية الإسبانية في المغرب، 1931" (2010).

تؤكّد الوثائق أنّ لوركا لم يرافق "فرقة لاباراكا للمسرح الجامعي"، ذلك أنّ رحلة هذه الفرقة كانت تتبنّى مشروع تقريب الثقافة، خاصّةً المسرح الإسباني في أعماله الكلاسيكية، من الجمهور في القرى والجبال المعزولة والمناطق النائية في إسبانيا. لقد زارت هذه الفرقة فعلاً المغرب سنة 1934، وبدأت رحلتها بعرض على خشبة "مسرح ثيربانتس" في طنجة، وامتدّت الجولة المسرحية لتشمل تطوان؛ حيث قدَّمَت عرضاً في "المسرح الوطني" بـ"شارع لونيتا" آنذاك، والذي جرى ترميمه مؤخّراً، لتختتم رحلتها بمدينة سبتة.

والوثيقة التي تؤكّد أن لوركا غاب عن هذه الرحلة، هي البطاقة البريدية التي أرسلها الممثّلون الجوّالون، (Franduleros)، كما كان يسمّيهم الشاعر الغرناطي، والتي توجد في أرشيف "مؤسَّسة غارسيا لوركا"؛ وهي رسالة تحملُ توقيعات الأعضاء الثمانية عشر في الفرقة، وتقول: "نجاحُنا كان باهراً في طنجة. هذا يجعلنا نُمدّد الرحلة لنؤدّي العرض الليلة في تطوان وغداً في سبتة. نحن سعداء، جدّ سعداء، لكنّنا كثيراً ما نتذكّرك"... صادفت رحلة "فرقة لاباركا" إلى شمال المغرب سفر لوركا إلى الأرجنتين، وهي رحلة موثَّقة مثلما هو الشأن بالنسبة إلى رحلة الشاعر الغرناطي إلى نيويورك.

رحلةٌ رسمية تولّى فيها مهمّة تحرير خُطب الوزير

لكن رحلة لوركا إلى منطقة الحماية الإسبانية بالمغرب كانت قد حدثت قبل ذلك بثلاث سنوات، أي في كانون الأوّل/ ديسمبر 1931، مباشرةً بعد صعود الجمهوريّين إلى الحكم، ذلك أنّ صاحب "عرس الدم" جرى تعيينه من قبل فرناندو دي لوس ريوس، وزير التعليم العمومي، سكرتيراً شخصياً، وهذا ما يُثبته كتاب ميغيل كاباييرو بيريث من خلال قصاصات الصحف التي تحدّثت عن رحلة الوزير التي كان الهدف منها، بالإضافة إلى تفقُّد المدارس والمؤسَّسات التعليمية والشروع في إصلاحها، تثبيت شخصية المفوّض الأعلى المدني للجمهورية بدل الجنرال سانخورخو في هذا المنصب... وقد كانت هذه أوّل رحلة لمسؤول كبير في الجمهورية إلى منطقة الحماية الإسبانية في المغرب.

نقرأ من الكتاب: "إنّ صورةَ المفوّض الأعلى، التي ظلّ يشغلها، حتى ذلك الحين، رجلٌ عسكري هو الجنرال سانخورخو، جرى استبدالها بصورة دبلوماسي محترف، هو لوسيانو لوبيث فيرير، الذي جرى تعيينه يوم الخامس من حزيران/ يونيو 1931. وقد شغل هذه المهمّة حتى كانون الثاني/ يناير 1933".

ويتابع: "هذا الإجراء لم يرُق للفئات البورجوازية في المنطقة، والتي كانت ترى في الجيش الضمانة الأشدّ صلابةً للوضع الإسباني أمام السكّان المحليّين. في هذه الأجواء من الرفض للمفوّض الأعلى الجديد، جاءت زيارة وزير التربية العمومية فرناندو دي لوس ريوس إلى منطقة الحماية، برفقة زوجته وابنته وسكريتيريه الشخصيّين؛ رفائيل ترويانو دي لوس ريوس وفديريكو غارسيا لوركا".

لوركا في أفريقيا - القسم الثقافي
غلاف كتاب "لوركا في أفريقيا"

ويصف الكتاب مختلف مراحل الرحلة التي بدأت بسبتة ثم تطوان والعرائش والقصر الكبير وشفشاون، بأنّها رحلة رسمية قام فيها الشاعر على ما يبدو بمهمّة رسمية تتمثّل في تحرير خُطب الوزير، لكنّها خُطب تبدو منفتحةً على التعدُّد والاختلاف والحوار، وبخاصة حوار الحضارات الثلاث أو الديانات الثلاث، مع إشادة بتاريخ مُشرق مضى من التعايش، يستحضر في صورة طليطلة، وحنين إلى روح المعمار العربي ممثّلاً في التوازي بين صورتَي تطوان وصورة البيازين. ويبدو أنّها خطابات لم تكن متقبَّلة من الفئات المحافظة، وخاصة من التوجُّهات الفاشية ومن العسكريّين الأفريقانيّين، بل وربما تكون من الأسباب الأساسية التي عجّلت بإعدام شاعر "قصيدة الغناء العميق".

معروفٌ عن الوزير فرناندو دي لوس ريوس انتماؤه إلى الحركة الماسونية. غير أنّ لوركا لم يكن ماسونياً. لكن، في تلك الرحلة، عُقد اجتماعٌ لفرع رأس سبارتيل للحركة الماسونية خلال مأدبة غداء أُقيمت في العرائش، حسبما يؤكّد ميغيل كاباييرو بيريث. وهكذا سيجد لوركا نفسه في آب/ أغسطس 1936 يواجه اتهاماً بالانتماء إلى الماسونية، وبأنّه السكرتير الشخصي لفرناندو دي لوس ريوس الوزير الجمهوري.

الخلاصة أنّ رامون رويث ألونسو وضع في حقيبة لوركا اتهامات عديدة مثل: جمهوري، وماركسي وماسوني ويهودي، ومثلي، بالإضافة للأسباب الخفية الأُخرى؛ مثل محاولة الانتقام للنيل من عائلة روساليس التي التجأ لوركا إلى بيتها ليحمي نفسه، وذلك في إطار الصراعات بين العائلات في غرناطة ومحاولات كلّ منها النيل من الأُخرى... هكذا أُعدم الشاعر الغرناطي في الوقت الذي صدر في حقّ الوزير فرناندو دي لوس ريوس، الذي كان في منفاه الأميركي، حكم غيابي بالسجن لمدّة 36 سنة.

كثيراً ما يجري تناوُل إعدامه بمنأىً عن أيّ معنى سياسي

ويبدو أنّ جهل بعض الذين كتبوا سيرة لوركا بهذا الجانب المتعلّق بتحمُّله مسؤولية سكرتير شخصي لوزير التعليم العمومي آنذاك فرناندو دي لوس ريوس، جعلهم يتناولون قتله بمنأى عن أيّ معنى سياسي، بينما الواقع أنّه كان من يُحرّر خطابات الوزير، وقد ساهم فعلياً أثناء زيارة منطقة الحماية في شمال المغرب على الأقل في صياغة ثمانية خطابات لدي لوس ريوس، ومعظم تلك الخطابات كان يطرح أفكاراً تُؤسّس لفكرة التعايش بين الثقافات والحضارات الإسلامية واليهودية والمسيحية المختلفة، وحوارها في ما بينها. لقد كان شاعراً يتجاوز زمنه.

يقول ميغيل كاباييرو بيريث في كتابه "لوركا في أفريقيا": "رغم أنّ البعض لا يرغب في التعمُّق أكثر في حياة الشاعر وعائلته، مشيرين إلى 'أنّ أعماله فقط هي ما يهم'، أعتبر أنّه من الضروري البحث الدقيق في التفاصيل الشخصية لفهم مقتله وأعماله، وخاصّةً مسرحه، المعتمد على شخصيات ووضعيات حقيقية، مثلما هو حال المآسي الريفية، مثل 'منزل برناردا ألبا'؛ العمل الذي كان أحد الأسباب الأساسية في مقتل الشاعر واختفائه".


* شاعر ومترجم من المغرب

المساهمون