في بداية تجربته الفنية، بالنصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، لم يكن على الفنان البولندي، ليشيك سكوركسي (1973)، أن ينتظر طويلاً كي يرى أعماله وهي تلفت الأنظار، حيث جرت تسميته، وهو ما يزال في الثانية والعشرين من العمر، فائزاً بـ"جائزة الدولة للرسم التشكيلي" في بولندا لعام 1995.
وإن كان هذا التكريمٌ المبكّر قد فتح باب الدعوات الدولية والمعارض وطلبات الاقتناء أمام الفنان الشاب، لينتقل بعد ذلك من مسقط رأسه، مدينة غدانسك، إلى ألمانيا، إلّا أنه لم يفضّل الالتحاق بالعديد من أبناء جيله الذين كانت مدينة برلين مقصدهم، وهي التي كانت معروفة بكونها "عاصمة الفن" المعاصر في ذلك الوقت، بل اختار بلدةً هادئة وبعيدة عن حمّى المدن الكبرى وأسواقها، بالقرب من مدينة فولدا، وسط ألمانيا، بما يتيح له البقاء بالقرب من الطبيعة والصمت اللذين يحضران بكثافة في لوحاته.
"ليشيك سكوركسي: صمتٌ مديد" هو عنوان معرضه الجديد الذي افتُتح في غاليري "غريف آرت" ببرلين يوم الخميس 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ويستمرّ فيه حتى الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني من العام المقبل، ضامّاً العديد من اللوحات التي أنجزها الفنان هذا العام، والتي تبقى وفية لخياره هذا في تصوير العزلة والقِلّة على حساب الكثرة، عمرانيةً كانت أم بصرية فحسب.
يكاد يكون اللون الأبيض، بطبقاته التي تُراوح بين الأبيض ـ الأزرق والأبيض ـ الرماديّ، ظلّاً للمحور الأساسي للأعمال المعروضة، وكأنّه لون الصمت الذي يتحدّث عنه الفنان في عنوانه؛ صمتٌ يصوّره الفنان بمشاهد لتضاريس واسعة، مغطّاة بالثلج وبعض المنثنيات، حيث يمشي شخصٌ أو مجموعة من الأشخاص المقطوعين من أيّ مظاهر أُخرى تدلّ على المجتمع أو الحضارة، ولولا قامتهم الطولية لظنّ مشاهد اللوحات أنهم مجرّد بقعة سوداء أو رمادية فوق المسطّحات البيضاء التي تصوّرها اللوحات.
على أنّ نُدرة الشخوص وذوبانها في المحيط الطبيعي لا تعني عند الفنان البولندي قطيعةً بين الاجتماعي والبيئي أو الطبيعي، بل تكامُلاً. كما أنّ الصمت الذي تقدّمه لوحاته يبدو ضاجّاً بالكلام، فالتكوينات التي تتّخذها الشخصيات القليلة في أعماله تفتح على عوالم سردية، حيث التجاوُر بين الشخصيات وكأنها تتحدّث خلال نُزهة أو مسير طويل، أو كأنها جزء من حكاية لا تروي اللوحة إلا تفصيلاً منها.