تشكّل العلوم الطبيعية والتكنولوجيا والمناخ وغيرها، مادة للعديد من الكتب الرائجة في الغرب، والبلدان الآسيوية التي تشهد معدلات نموّ مرتفعة، شأنها شأن كتب السياسة والأدب والمذكرات الشخصية والدين التي تتصدّر عادةً قائمة المبيعات حول العالم في جذبها للقرّاء.
وبرزت أسماء من أمثال كارل ساغان وستيفن هوكنغ وكارل زيمر وجيمس غليك وآخرين توّجهت مؤلّفاتهم للقارئ العادي، بعضهم أساتذة متخصّصون في العلوم، وبعضهم الآخر يعمل في الصحافة والكتابة عموماً. أما في الجانب العربي فثمة شحّ في هذا النوع من الكتابات في الثقافة العربية لأسباب عدّة، ربما ترتبط بضعف الإنتاج المعرفي وغياب دعم كافٍ من المؤسسات العلمية، حكومية أو خاصة.
في حديثه لـ"العربي الجديد"، يعود مهندس الإنشاءات وأستاذ الفلسفة أيوب أبو دية إلى مسألة أساسية تتصل بتبسيط العلوم، متمثّلة بكتب تاريخ العلم والعمل الموسوعي في كل المجالات، وليس في العلم وحده، والتي يعدّها من سمات الصعود الحضاري؛ حيث صدرت العديد من الموسوعات العلمية المهمة في مراحل مختلفة من الحضارة العربية الإسلامية، في الطب والصيدلة والأدوية والعلوم الطبيعية وعلم الفلاحة، وعلم التعمية (التشفير)، وعلم الميكانيكا. وكذلك الأمر في الحضارة الأوروبية أيضاً، حيث شهد القرن السابع عشر ظهور موسوعات ضخمة بدأها فرانسيس بيكون في بريطانيا، وديدرو وفولتير ومونتسكيو في فرنسا، وغيرهم.
لا يشكّل الكتاب العلمي 1% من مجموع ما ينشرعربياً اليوم
ويشير إلى أنه في بداية عصر النهضة في العالم العربي، خلال القرن التاسع عشر، مع ذهاب البعثات العلمية إلى أوروبا، نُشرت أعمال موسوعية مهمة لكتّاب مثل بطرس البستاني في مؤلّفه "دائرة المعارف" (6 مجلّدات)، وتلتها "دائرة المعارف الإسلامية"، التي أعدّها وترجمها عن عبد الحميد يونس وإبراهيم زكي خورشيد ومحمد ثابت الفندي وأحمد الشنتناوي في العقد الثاني من القرن العشرين، و"دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي.
تبدو صورة الماضي أكثر إشراقاً، وفق صاحب كتاب "البيئة من منظور الناشئة"، الذي يوضّح أن الكتب العلمية لا تشكّل 1% من مجموع ما يتمّ نشره عربياً اليوم، وهذا يعود لبنية الدولة في العالم الثالث ومنها البلدان العربية. وهي بلدان مستهلكة وتابعة ومسيطَّر عليها من قبل المراكز الرأسمالية المتطّورة، حيث لا بوجد فيها إنتاج علمي حقيقي، باستثناء بعض الأبحاث هنا وهناك، والتي لا ترتبط بالصناعة في العالم العربي، إذ تستورد جميع السلع من الخارج.
وهنا، يستدلّ بنموذج إقليم أيونيا في القرن السادس قبل الميلاد، حيث انتعشت التجارة لدى الإغريق وازدهرت أحوال الناس ما قاد إلى تنامي الفلسفة والتفلسف. مقابل ذلك، يلفت أبو دية إلى أن معظم المجتمعات العربية تعيش أوضاعاً اقتصادية غير مستقرّة تبعدها عن المعرفة والإقبال على العلم حالياً، ما يعكسه تدني مستوى الإنفاق على التعليم لدينا مقارنة بالغرب، قياساً بالاهتمام في الترجمة -نسبياً- والثقة بما يتمّ نقله من لغات أخرى ومنحه الجوائز، الأمر الذي تستحق دراسته وفهمه من أجل النهوض بحركة التأليف العلمي.
أغلب النتاجات العلمية تُنشر لغاية الترقية في الجامعات
وينوّه صاحب كتاب "راهنية الأبنية الخضراء" إلى أنَّ أغلب النتاجات العلمية تُنشر لغاية الترقية في الجامعات، وما عدا ذلك هناك مقالات مترجمة أو تكرار وتوسّع لموضوعات منشورة سابقاً، ومعظم دور النشر لا تولي الكتاب العلمي اهتماماً، لأنه لا يحقق أرباحاً قياساً بكتب التراث التي لا يمكن الاستفادة منها إذا لم نقرأها بعيون معاصرة وبمنظور العلم الحديث. وعدا ذلك توجد جهود فردية يقوم بها بعض الكتّاب على حسابهم الخاص، بالإضافة إلى عدد قليل من المؤسسات الثقافية والعلمية ووزارات الثقافة العربية، التي لا تقدّم سوى دعم محدود في مجال التأليف العلمي.
يخلص أبو دية إلى أن العرب مطالبون اليوم بمزيد من الاعتناء بالثقافة العلمية ونشرها لأنّها هي من يؤسس أجيال المستقبل، فالعلم هو أداة الحاضر، ومن دونه لا يمكن أن يفهم الطالب العلوم المعاصرة ومنهاجها ويبدع فيها، وهذا يحتاج إلى تخصيص ميزانيات كافية.
أما الباحث إبراهيم غرايبة، فيرى أنَّ هناك حاجة مؤكدة وملحّة لتقديم العلوم المختلفة لغير المتخصصين بها بجميع مستوياتهم المعرفية والعمرية؛ الأطفال والفتيان وطلاب الجامعات، والمثقفين العامين، والمتخصّصين. فالمتخصص يحتاج إلى معرفة بالتخصصات الأخرى وخاصة المتداخلة مع مجاله. والمثقف العام يحتاج إلى فكر متخصص ليكوّن اهتماماً عميقاً بالعالم. ويحتاج الطالب الجامعي إلى المعرفة العلمية في مستوى ملائم ليحيط بتخصصه وبالتخصصات المحيطة والمتداخلة وليحصل على تكوين معرفي واجتماعي شامل ومتوازن. كما يحتاجها طلبة المدارس لاكتمال مؤهلاتهم المعرفية والعامة، وكذلك المؤسسات الأكاديمية إلى متابعة جارية وشاملة للمعرفة في تطورها وتشكلها وتنظيمها.
المعرفة العلمية ليست سلعة يمكن أن تحملها مؤسسات تجارية
هناك عامل آخر في ضرورة تقديم المعارف العلمية، بحسب صاحب كتاب "من الهرمية إلى الشبكية"، ويتصل بالتغيّر الكبير الذي يجري اليوم في العلوم والتكنولوجيا، ونشوء معارف وتخصّصات جديدة، فإذا لم يحظ بها المتخصصون والمثقفون والمخططون وصانعو القرار وطلبة المدارس، فإنهم يعجزون عن متابعة ما يجري حولهم كما يفقدون القدرة على متابعة الجديد والتحديث في العلوم والمعارف. وهناك معارف ومهارات علمية متخصصة يجب تدريسها لطلبة المدارس والجامعات بحيث صارت ضرورة تعليمية مثلها مثل القراءة والكتابة. ومثال على ذلك البرمجة والذكاء الاصطناعي ومهارات التفكير والإبداع.
ويعتقد غرايبة بأن البدء بترجمة ما لدى العالم المتقدّم من تجارب في هذا المجال هو الإجراء المقترح بداهة لأجل تحقيق إحاطة سريعة بالتجارب الإنسانية المتقدّمة، مُستدركاً بقوله "يجب أيضاً العمل على استيعاب المعارف والتخصّصات جميعها وتقديمها في محتوى يستطيع الطلاب والناشئة والمثقفون والمتخصّصون الإحاطة به، لأنَّ المشاركة العالمية في محاولة استيعاب المعرفة والإضافة إليها ومراجعتها ينشئ معرفة علمية أصيلة بدلاً من الاكتفاء بالتلقّي والترجمة، كما يجعلنا جزءاً من العالم نشارك فيه ونعطيه مثل ما نأخذ منه. وهذا أمر ممكن تحقيقه بالمعطيات والفرص الموجودة في المؤسسات التعلمية والأكاديمية في العالم العربي. لكن نحتاج إلى مبادرة وإرادة وحسن النية".
ويشير صاحب كتاب "الثورة الصناعية الرابعة: التحدي والاستجابة"، إلى أنه في مقدور جميع الجامعات العربية اليوم أن تشارك في مشروع تقديم وتبسيط المعارف والعلوم المختلفة، بمعنى أنَّ المؤهلات والقدرات المتخصصة موجودة، وكون مثل هذا المشروع غير ربحي، فلا مجال سوى لمبادرات حكومية وجامعية تنفق عليه وهذه هي المشكلة ابتداء. إذ إن المعرفة العلمية ليست سلعة أو منتجاً يمكن أن تحمله في عالم العرب مؤسسات تجارية مثل دور النشر لأنه مُكلف ولا يتوقع أن يحقّق عائداً مالياً مجزياً أو كافياً حتى لاسترداد تكاليفه. ويختم "معظم التأليف اليوم في عالم العرب ليس سوى مبادرات محدودة بائسة أو شغف فردي شخصي".
تدريس البرمجة والذكاء الاصطناعي ومهارات التفكير بات ضرورة
من جهته، يقيّم أستاذ الجيولوجيا نزار أبو جابر العديد من المحاولات العربية في تبسيط العلوم بأنها كانت صعبة على القراءة، بالنسبة إلى غير المتخصّصين، لذلك يجب البحث عن الأشخاص المبدعين في العالم العربي كخطوة أولى من أجل دعمهم وتمكينهم، مبيناً أن قّلة من الكتّاب في الغرب يمتلكون الموهبة والبراعة في الكتابة العلمية الموجّهة لعموم الجمهور.
وينبّه صاحب كتاب "الأردن والتحدي البيئي" إلى أن الترجمة ضرورية في مجال تبسيط المعارف والعلوم، لكن تظلّ هناك مشكلة في كون الكاتب يؤلّف إصداراته متناغماً مع بيئته الفكرية، وبالتالي قد لا يلامس كاتب غربي ذهنية القارئ العربي، ومن الأفضل وجود مؤلفين عرب يستطيعون جذب انتباه القرّاء. والأهمّ التفكير بفئة اليافعين والفتيان بشكل خاص الذين لا يجدون الرغبة بقراءة كتب علمية باللغة العربية، نظراً لنزوعها نحو التبسيط أكثر مما يجب، أو أنها مكتوبة بأسلوب يبعث على الملل، أو أن مستواها معقّد.
الكتابة لهذه الفئة تمثّل بداية موفّقة، حيث يمكن أن يتحوّل اليافعون إلى قرّاء نهمين للموضوعات العلمية إذا ما أردنا تنشئة جيل من المهتمين في العلوم يتابع ما يستجدّ من اكتشافات وابتكارات في العالم. ويقترح أبو جابر، في هذا الإطار، إطلاق مسابقة تتنافس فيها نصوص علمية بموضوعات محددة ومعايير معينة ومكتوبة بلغة رصينة للجمهور، الذي يفضّل أن يشترك في تحكيم الأعمال المترشّحة إلى جانب الأساتذة المتخصّصين، تحت إشراف مؤسسة علمية أو عدد من المؤسسات.