ضمن "معرض الكتاب العربي" الخامس، الذي نظّمته "جمعية الثقافة العربية" في "المركز الثقافي العربي" بمدينة حيفا في فلسطين المحتلّة عام 1948 على مدار تسعة أيّام بين 14 و22 أيلول/ سبتمبر الجاري، أُقيمت الخميس الماضي، ندوة بعنوان "الأرشيفات في إسرائيل وأكاذيب الرواية التاريخية الإسرائيلية حول النكبة".
سلّطت الندوة الضوء على كتاب "الأرشيفات في إسرائيل والرواية التاريخية الإسرائيلية والنكبة: كشف النقاب عن التقرير الذي يدحض الرواية التاريخية الإسرائيلية" للمؤرّخ محمود محارب، وهو دراسة كانت قد نُشرت في صيغة موجزة ضمن دورية "أسطور" للدراسات التاريخية في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، قبل أن تصدر حديثاً في كتاب عن "مركز مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية" (حيفا).
وقال الكاتب والناقد أنطوان شلحت، الذي أدار الحوار مع المؤلِّف، إن الأرشيف الإسرائيلي موضوع إشكالي للغاية، ودراسة محارب تتضمّن معلومات هامّة عنه، وحول ما يحتويه، والأهمّ من ذلك حول سياسة السرّية التي تُفرَض عليه والغايات التي تقف وراءها.
وأشار شلحت، في معرض حديثه عن السرّية المفروضة على هذا الأرشيف، إلى أنّ أحد المعاهد الإسرائيلية الذي يعمل في النبش في الأرشيفات كشف، قبل أشهر، أنّ ما سُمح بالاطلاع عليه من الوثائق المحفوظة في الأرشيف الحكومي الإسرائيلي هو 2.8 في المئة فقط من الملفّات، أمّا أرشيف الجيش الإسرائيل فسُمح بالاطّلاع على 0.36 فقط في المئة من ملفاته.
طمس يهدف إلى نفي مجازر التهجير والتطهير العرقي
وأضاف أنّه قبل أربعة أعوام، كشفت صحيفة "هآرتس" أنّ طواقم من وزارة الدفاع الإسرائيلية والمؤسَّسة الأمنية تعمل، منذ بداية الألفية، على مسح أرشيفات في شتّى أنحاء دولة الاحتلال، وتقوم بإخفاء وثائق تاريخية تتعلّق بالبرنامج النووي الإسرائيلي وعلاقات "إسرائيل" الخارجية "مع الأنظمة الظلامية"، إضافةً إلى مئات الوثائق التي تحوي قرائن تتعلّق بالنكبة الفلسطينية، بما في ذلك شهادات لجنرالات في الجيش الإسرائيلي حول قتل مدنيّين أبرياء وتهجير قُرًى وطرد سكّان، وكلُّ ذلك في إطار نشاط منهجي لإخفاء شواهد على ما جرى اقترافه خلال النكبة.
وأشار شلحت إلى شهادة يعقوب لازوفيك، المدير السابق لـ"أرشيف إسرائيل"، والذي شغل هذا المنصب بين 2011 و218، ولخّص عمله بالعبارات التالية: "إسرائيل لا تُعالِج مواردها كما هو متوقَّع من دولة ديمقراطية، وغالبية مواد الأرشيف مغلَقةٌ ولن تُفتَح أبداً، والقلّة التي سيُكشَف النقاب عنها ستكون مكبَّلة بقيود غير معقولة، ولا توجد أيّة رقابة عامّة على عملية الكشف، وهناك انعدام تامٌّ للشفافية".
وذكر محمود محارب أنّ دراسته تستعرض الأرشيفات الإسرائيلية وتُعالج السياسة التي اتّبعتها الحكومات الإسرائيلية في كلّ ما يتعلّق بإحكام الوثائق والملفّات المرتبطة بحرب 1948 والنكبة والقضية الفلسطينية، والتي تتناقَض مع الرواية التاريخية الإسرائيلية أو تختلف عنها، ولا سيما الوثائق ذات الصلة بطرد الفلسطينيّين من وطنهم وارتكاب جرائم حرب في حقّهم.
تقف الدراسة على الخطوات التي اتّخذتها المؤسَّسة الإسرائيلية في مواجهة كشف المؤرّخين الجُدد وغيرهم وثائق من الأرشيفات الإسرائيلية تتناقض مع الرواية التاريخية الإسرائيلية، وتكليفها أحد أشدّ أجهزة الأمن سريّةً بإجراء فحص شامل للأرشيفات في "إسرائيل"، وإعادة إغلاق الوثائق والملفّات المتعلّقة بالنكبة والقضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي، والتي تتناقض مع الرواية الرسمية الإسرائيلية لهذا التاريخ.
وتتناول الدراسة، بالعرض والتحليل، وثيقة بالغة الأهمية دوّنتها المخابرات العسكرية الإسرائيلية يوم 30 حزيران/ يونيو 1948 بعنوان "حركة هجرة عرب أرض إسرائيل في الفترة 1 كانون الأوّل/ ديسمبر 1947 – 1 حزيران/ يونيو 1948"، والتي كشف "معهد عكيفوت" النقاب عنها عام 2019. وتتناقض هذه الوثيقة بشكل كُلّي مع جميع مركَّبات الرواية التاريخية الإسرائيلية بخصوص قضية تهجير الفلسطينيّين من وطنهم فلسطين، وتُحمّل المنظّمات العسكريةَ اليهودية والجيشَ الإسرائيلي مسؤولية تهجير الفلسطينيّين في الفترة المذكورة.
وتوقّف محارب عند العناصر الرئيسية التي بلورت "إسرائيلُ" من خلالها روايتَها التاريخية حول النكبة الفلسطينية، والتي تُسمّى في الأدبيات الإسرائيلية حرب 1948، وتقف في صلبها غايةُ تجميل الحركة الصهيونية والجيش الإسرائيلي وتكريس أساطير مؤسِّسة حول تلك الحرب.
إخفاء طبيعة الحركة الصهيونية وماهية مشروعها الاستعماري
وذكر المتحدّث أنّ أهمّ النقاط التي جرى تجاهُلها بصورة تامّة في الرواية التاريخية الإسرائيلية عن النكبة هي طبيعة الحركة الصهيونية وماهية مشروعها الكولونيالي الإجلائي، الذي هدف إلى إقامة دولة يهودية للمستوطنين اليهود في فلسطين على حساب وجود الشعب العربي الفلسطيني فيها. كما جرى تجاهُل فكرة ومخطّطات "الترانسفير" التي نصّت على وجوب طرد الفلسطينيين من وطنهم، بغية إقامة الدولة اليهودية على أنقاض الوطن الفلسطيني. وقال محارب إنّنا لا نكاد نجد قائداً صهيونياً من شتّى أطياف الحركة الصهيونية إلّا وربط بين إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وطرد الفلسطينيّين عن بكرة أبيهم منها.
كما تجاهلت الرواية التاريخية الإسرائيلية، وفقاً لمحارب، تأسيس الوكالة اليهودية ثلاث لجان ترحيل من أجل وضع إستراتيجية وخطط عملياتية لترحيل الفلسطينيّين عنوة من فلسطين، الأُولى في عام 1937 والثانية، في عام 1942، والثالثة في عام 1948. وتجاهلت الروايةُ كذلك وضْعَ منظَّمة الهاغناه خططاً إستراتيجية عسكرية وعملياتية لطرد الفلسطينيّين؛ كان أبرزُها الخطّة "دالت". وفي الوقت عينه تجاهلت الروايةُ إنشاء الهاغناه جهازاً خاصّاً لتنفيذ هذه الخطط.
وأكّد محمود محارب أنّ الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية ترمي إلى نفي الاعتراف بتنفيذ القوّات العسكرية الإسرائيلية عملية طرد الشعب العربي الفلسطيني وتنفيذ تطهير فلسطين عرقيّاً واقتراف جرائم حرب، كما ترمي إلى نفي ارتكاب مجازر لتيسير عمليات الطرد والتطهير العرقي، والتي بلغ عددها 110 مجازر، وفق ما ذكره حتى المدير السابق لأرشيف الجيش الإسرائيلي.
أسئلة التاريخ والراهن
فضلاً عن ندوة "الأرشيفات في إسرائيل"، ضمّت الدورة الخامسة من "معرض الكتاب العربي" عدداً من الفعاليات التي انشغلت بقضايا فلسطين والاحتلال؛ مثل إطلاق كتاب "اليمين الجديد في إسرائيل"، الذي صدر حديثاً عن "مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية" بتحرير هنيدة غانم، وبالثقافة الفلسطينية؛ مثل ندوتَي "أسئلة حول العمل الثقافي في الداخل الفلسطيني" بمشاركة علي مواسي وبشّار مرقص وكفاح عبد الحليم، و"الأسطورة والحكاية الشعبية في أدب الأطفال الفلسطيني" بمشاركة منى سروجي وأحمد نبيل وحنان موسى حزّان.