"محور الذئب" (03): في لانهائيّة السهل السيبيري

01 يوليو 2023
منازل خشبية في قرية أرشان السيبيرية، روسيا (Getty)
+ الخط -

قضيتُ أحد عشر يومًا في سرير نهر لينا. وجهتي قرية ماشا، على بعد ثلاثمائة كيلومتر من عالية النّهر. منها سوف أصل إلى ثنيّة تقودني عند سفح كتلة جبليّة قائمة أمام وادي فيتيم. سأعبرها لأصِل بعدها إلى بورياتيا الشّماليّة وبحيرة بيقال، ولكنّي لا أجرؤ بعد على التّفكير في غاية بمثل هذا البُعد.

في الوقت الحاضر، أسير على ضفّة لينا، لا يشغل بالي سوى أن أبلغ في المساء الغاية التي رسمتُها في الصّباح. أمشي على الطّمي الجافّ الذي يلحسه أحيانًا ارتداد موج تثيره إحدى السّفن. ثبّتّ على جرابي جلجل صديقة فيرا، فكان يرنّ بقوّة في كلّ خطوة حتّى أنّ أيّلين فرّا من أمامي. ولكن هل سيُحدث رنينًا له من القوّة ما يُبعد الدّببة؟

قِطع من الجليد في حجم الصّخور، موضوعة على السّاحل، هي آخر بقايا الشّتاء. تفتّتت بسبب الذّوبان في شكل ندائف ثلج عموديّة، منضّدة مثل عُصيّات بُشرت من الكتلة. أضرب بحرف العصا تلك البنى الهشّة التي تتهاوى في وقع تهشّم زجاج، مثل أبراج الجمَد في مدينة بلّوريّة.

روافد نهر لينا، القادمة من الشّمال، تعطّل مسيرتي. لكي أعبرها من مجازة ينبغي أن أسير على طول المجرى باتّجاه المَدَبّ، وسط أرومات الأحراج. أغوص حتّى الرّكبتين في الأُشنة (الغوص في الأشنة يعني "الفرار" في لغة الزّيك)، وأجد صعوبة في تخطّي حاجز الأعياص، فجرابي يلتصق في أرومات الأشجار المقطوعة، وأخشى كلّما بلغت فرجة أن أصادف دبًّا. اجتزت عدّة أودية، منحنيًا على عصا التّنّوب، والماء البارد يصل إلى صدري. الريّح التي تنزلق باستمرار على نهر لينا، قادمة من الغرب، تجمّدني وتجفّف في الآن نفسه ثيابي المبلّلة. فهمت خلال تلك السّاعات التي قضّيتها في فتح طريقي، واقتحام سبيلي إلى الغابة أو على طول الضّفّة، لماذا يصف المحكوم عليهم بالأشغال الشّاقّة الفرار أحيانًا بالمرور أمام وكيل النّيابة الأخضر: وكيل النّيابة الأخضر هو الطّبيعة، وظروفها القاسية التي كانت أكثر رعبًا لدى عدد من الفارّين من أحكام وكلاء النّيابة الحمر!

سيلفان تيسّون، يسار، خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني فرنسي عام 1998 (Getty)
سيلفان تيسّون، يسار، خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني فرنسي عام 1998 (Getty)

ماء ذوبان الثّلوج ضخّم بساط نبت الحراج. أمرّ لساعات طوال عبر المستنقعات، وأنتزع مع كلّ خطوة قبَلا موحلة. كيف يمكن أن ننتزع من تلك الأرض العفنة أكثر من كيلومتر أو اثنين في السّاعة؟ صوت الامتصاص يغيظني. في كلّ خطوة فرقعة لزجة لرِجل تغادر خُصَّها الموحل. كانت الشّمس قد احتلّت موقعها الصّيفيّ ولن تنزل عنها أبدًا. الأشعّة التي ترشح عبر أسمال أوراق الشّجر ترسم في الغابة خطوط ضوء درْويديّة. وهكذا يستحمّ الرّأس في صفاء سماويّ، أمّا القدمان ففي عصيدة. بيد أنّ بِرك المستنقعات تقوم مقام مرايا صقيلة، فسقيّات ماء بلّوريّ أحطّمها بسعار كي أنتقم من كوني لست بجعة.

في قرية تومول، كفر سيبيريّ بائس مهمل على حافة لينا، مطوّق بالنّهر والغابة، أجارني إيفان، الذي لم يكن له من عيشه غير قمح يجنيه وجمال الأمكنة، في بيته المبنيّ بالحطب المدوّر منذ 1870. أعلمني أنّ على مسافة ثلاثة كيلومترات قبيل المقبرة حيث ينتظره أبواه وإخوته، يوجد خطّ تلغراف تمّ مدّه في عهد بريجنيف على المسار المحدّد الذي كان يتّبعه سُعاة القيصر.

- إنّه يصل ياكوتسوك بموسكو! أنظر إليه أحيانًا وأنا أقول في نفسي إنّني لست وحيدًا ما دام كلّ أولئك النّاس يتحادثون هناك هُم وراء ظهري. اتبعْه، قال ينصحني، إنّه يقود إلى أوليوكمنسك، عبر التّيغة. هذا أسهل من التّخبّط على الضّفّة.

عملا بنصائحه، سرتُ وصفوفَ الأعمدة طيلة عدّة أيّام، وأنا آسَف أنّي لن أكون مثل تلك الموجات التي تنزلق بسرعة على خطّ من النّحاس. الخطّ، القائم في ممرّ مستصلح ذي عرض بعشرة أمتار، يشجّ الغابة. والقناة تهرب، مستقيمة، في موازاة النّهر. الأعمدة مفسَّحة، تبعد بعضها عن بعض خمسين مترًا. ولكن عندما تغمر المستنقعات الممرّ، يلزمني أحيانًا عدّة دقائق كي أصل بين عمودين: أتقدّم بوتيرة أكثر بطئًا من مكالمة هاتفيّة.

ذات مساء من منتصف يونيو/ حزيران، قطع رافد أوسع من الرّوافد الأخرى طريقي. في لهيب الغروب الذي لا يريد أن ينطفئ قبل بزوغ الفجر، ضيّعت ساعتين في البحث عن معبر فوق واد عميق. سبرت بعصاي المياه الباردة الجارية دون جدوى. ثمّ، وإذ اقتنعت بأنّي لن أمرّ على رجليّ، دشّنت طريقة عبور غالبًا ما سوف ألجأ إليها لاحقًا: أفكّ باستعمال خنجري قطعًا مدوّرة من حطب السّندر، وأربطها في ما بينها بِشاشي. أثبّت جرابي وثيابي على ذلك الرّتم الخشبيّ، وأعبر عاريًا مثل دودة، المجرى المائيّ سباحة، وأنا أدفعه أمامي. استقبلتني عاصفة طوفانيّة في النّاحية الأخرى وأعدمت جهودي في المحافظة على ثيابي جافّة.

من الضّروريّ أن يكون المرء قد عاش هيجان السّماء على ضفّة نهر قويّ في العزلة السّيبيريّة كي يحسّ بعضًا من هلع الرّوح العتيق أمام الطّبيعيّ. ليس للإنسان توليفة موسيقيّة يعزفها في سيمفونيّات العناصر تلك. هطل المطر بغزارة شديدة حتّى أنّ ستارًا من الحزّات الرّماديّة غطّى المشهد. وبيّضت الغيوم صفحة نهر لينا، اللّطيف حينًا رغم وقوعه تحت هجمات الصّيف الناشئة. أسمع صدى الصّاعقة يعبر جسدي مثل ذبذبة صادمة صمّاء. أمشي تحت ستار أشجار تحفّ بشريط الضّفّة الدّقيق، فأوراق الأشجار تقيني وابل المطر، ولا يهمّ إن أصابني البرق. الضّفّة الرّمليّة التي غسلتها المياه، وضخّمتها الأمطار، صارت عصيّة على السّير، وسوف أخيّر عمّا قريب البساط الإسفنجيّ للأشنة الغابيّة على أخاديد السّاحل. على حافة جدول، في النّهار الدّائم الذي لوّثه المطر، أبحث عن فضاء مغمور بشكل أقلّ من سواه كي أضرب ما يقوم مقام خيمة بالنّسبة إليّ: نفق من الكتّان أتلوّى داخله مثل يرقة صدمها أن رأت ما هو العالَم، وأرادت العودة إلى نغَفتها. التّيغة تقطر. توقّفت تحت إسفنجة. أرض موحلة، زاد نافد، ثياب مرنّخة: مخيّم الهزيمة. عزائي رغم ذلك أنّ السّاعات التي أقضيّها في تابوت الكتّان، مرغمًا على الجمود، تحملني إلى اليوم الذي أوضع فيه في كفني الأخير، لأجل الوقوف الخالد أمام الموت.

الكلبة التي تبعتني في اليوم الثّاني تشبه ذئبًا. ما هو الشّعور الذي يشدّها إليّ؟ لعلّها تتعجّب من كونها تتلقّى مداعبات بدل الضّربات؟ تحت غطاء الشّجر، كانت تلاحق السّناجب. على حافة النّهر، تغوص كي تنتعش: حضورها يطمئنني لأنّ نباحها قد يرغم دبّا يصطاد في الأحراج على الفرار. ذلك ما أكّده لي أصدقائي في ياكوستوك على أيّ حال: "في مواجهة دبّ، لا شيء أجدى من بندقيّة، أو كلب إذا غابت البندقيّة".

غلاف الترجمة العربية للكتاب
غلاف الترجمة العربية للكتاب

بدأت أفكّر في أنّها ستربط مسيرها بمسيري وتتبعني حتّى الهند، وغمرني من ذلك بعض الفرح، حين انفتحت فجأة فرجة شاسعة، دلفت إليها الكلبة وتركتني وحيدًا مع المنظر الطّبيعيّ. رؤية سامقة: من الجنوب، لينا، النّهر المحيطيّ؛ ومن الشّمال، غابة ليس لها حدّ، ومثل غطاء وُضع فوقها كلّها، السّماء، في زرقة متوحّدة حتّى السّاحل القطّبيّ. سيبيريا جغرافيا لم يستطع التّاريخ أن يفعل ضدّها أيّ شيء. أذكر بكاء ميشا، ذلك الرّوسيّ الذي قابلته عند سافلة النّهر في كوخ صيّاد. عندما أخبرته بأنّي أرغب في بلوغ بيقال مشيًا، أمسك رأسه بيديه وقال في نشيج:

- ما العمل! ما العمل! هذا البلد شاسع بشكل مفرط!

ثمّة أمر عاجل في اللّحظة الرّاهنة: العثور على الكلبة. في الفتحة التي اختفت فيها، توجد عزبات من السّندر بدت لي خربة. هنا، يصعب التّمييز بين ما هو مهجور وما ليس كذلك: روسيا هي إمبراطوريّة الأشياء المتأرجحة على حين غرّة وبشكل غير منتظم. ثمّة عمليّة صيد خيول برّيّة كانت تنتظم داخل الأعشاب العالية. يخيّم على المكان سكون لوحة. خيط من الدّخان يصّاعد مستقيمًا من سقف قديم مثل قِدّة أخشاب الأرضيّة. وهذا معناه أنّ في هذا الكفر الشّبح بشرًا. في الواقع، ثمّة شخص واحد هو ستيبان سولتنيكوف: خمسون سنة، بلا أسنان، ناحل مثل ذئب، حفيد سولتنيك أوكرانيّ (أي ضابط قوزاق معاد للبلشفيك) تمّ نفيه إلى سيبيريا. قدّم لي ما يملك: شايًا وزُنْجورًا مملّحًا. يعيش في العزبة كامل السّنة على ما يصطاده في الغابة أو النّهر. بقي هنا عند سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ. الآخرون غادروا القرية إلى المدينة. هو يعيش عيشة راضية. وكيف يتذمّر ما دام بحوزته بندقيّة بطلقتين، وعلبة بمائة شصّ، وحصان وكلبة تدعى لينا. تلك التي ظننت أنّها صارت لي.

- هل أكملت؟ سألني.

- نعم. لذيذ، شكرًا.

- إذن، تعال.

- إلى أين؟

- لنرى فيكتور، رجل ستاروفييري.

ركبنا معًا على صهوة الحصان. أنا على السّرج، وسولتنيكوف على الكفل. حمل البندقيّة وحملتُ صنّارتين. سرنا طويلًا في التّيغة واللّيل الأبيض. مشينا باتّجاه عالية النّهر بمحاذاة مسيل وادٍ. لاحظنا آثارًا تركها دبّ عند نبشه الأرض. اجتزنا جدولًا ذا أحجار مصفرّة بفعل الأكسدة، ووصلنا أخيرًا إلى الكوخ. في داخله كانت قطع الحطب مضمّخة بالسّخام. لم يرفع الرّجل الجالس في جوف الكوخ حتّى عينيه عند دخولنا. كان يقرأ التّوراة. وقد رسمت التّجاعيد على وجهه أخاديد: أخاديد في اللّحم. اسمه فيكتور، وهو ستاروفييري، "مؤمن قديم"، وهو الاسم الذي أُطلق على معتنقي هرطقة من القرن السّابع عشر، ظلّت وفيّة لأرثوذكسيّة راديكاليّة وأصابها من ذلك قمع القياصرة والسّوفييت على حدّ سواء. ماذا يقول فيكتور؟ لا شيء، عدا أنّه يعيش هنا وحيدًا، مع فأس كي لا يشعر بالبرد، وبندقيّة كي لا يشعر بالجوع، وتوراته كي لا يشعر بالخوف. خرجنا. الشّمس المنحدرة حتّى سطح الأرض تقريبا تعبر القِحام وتقع على تجاعيد فيكتور المؤمن العجوز الذي هبّ الآن لإعداد الشّاي.

نزلنا ثلاثتنا إلى عدوة رافد لنلقي بصنانيرنا. ونحن نسير، قلت لفيكتور إنّي أعرف قصّة نحو مائة من المؤمنين القدامى ممّن حاولوا الهرب من الاتّحاد السّوفييتيّ في نهاية الأربعينيات. رجال ونساء وأطفال شكّلوا حشدًا من المتسكّعين المتصوّفين، خرجوا من ألتاي وساروا نحو الهند عبر صحراء غوبي – تقريبًا على طول طريق سلافومير رافيتش – ولكنْ، عشرون منهم فقط وصلوا إلى كالكوتا عام 1952. البقيّة هلكوا في الطّريق. الكاتب ميشيل بيسّيل هو الذي نقل تلك القصّة الواقعيّة في "الفطور نمر".

- نعم، سمعت أنّ مجموعة من السّتاروفييري فرّوا، منذ 1934. أنا لم أهرب.

ولم يضف فيكتور إلى ذلك كلمة، ولكنّي أعرف أنّ الوشوم التي على ساعده هي أزهار الغولاغ: إرث ماض يمّحي بأقلّ سرعة من الذّكريات. فيكتور استعان بالغابات. يعرف أنّ الحياة البرّيّة الحرّة هي الطّريقة الأعمق للاحتفاء بروح التمرّد. قضّينا اللّيلة في صيد الزّنجور تحت ضوء أشبه بضوء مستشفى، ثمّ عدنا إلى الكوخ ليستأنف أحدنا قراءة التّوراة، ويستأنف الآخران خيط السّبيل.

قطعتُ عبر التّيغة لأبلغ أطراف هيلينا. كنت أتعجّل اللّقاء بضفاف نهري الإله. بعض الثّلوج الحُبيبيّة كانت تستوفي ذوبانها، تحجبها عن الشّمس أغصان كثيفة ملتفّة. وبعد أن غصت في أُشنة التّيغة وماء المستنقعات، صرت أتخبّط في الثّلج القذر.
أحيانًا، وحدي عند المساء، جالسًا على جذع سندرة، أدوّن على الضّوء المضاعف القادم من لهب النّار وصفاء اللّيل قائمة الأحداث التّافهة التي هي مع ذلك أهمّ كنز لدى الهائم:

"الأربعاء 18 يونيو
سمعت نداء البجع الوحشيّ
رأيت سنجابًا وأيّلًا
اجتزت جدولًا في لون الذّهب
مشيت في الخلنج
لاحظت شتل التّنّوب الموسميّ
عبرتُ سباحة ساعدَي نهر ميّتين
قطفت للينا باقة أزهار محمّضة
قطعت ثلاثة كيلومترات من السّباخ
لم أصادف أحدًا".

ذات يوم، قرية أورتسكوي. كانت ضفاف لينا مزروعة بدساكر الصّيّادين الحطّابين. يلزم المشي في الطّبيعة يومًا أو ثلاثة لربط أحدها بالآخر. سكّانها يتحدرون بالفكر وأحيانًا بالدّم من روّاد القيصر الذين كانوا يصعدون الأنهار ويستصلحون التّيغة ويثبّتون في قمّة أوّل شجرة تنّوب مقطوعةٍ العلَم الممهور بنسر ثنائيّ الرّأس. استقبلني عمدة أورتسكوي عاري الصّدر، ماسكًا فأسًا، معتمرًا خوذة جنديّ دبّابة من جنود الجيش الأحمر. خصّص لي بيتًا من حطب السّندر لقضاء اللّيل، وأمر بفتح المتجر الضّئيل كي أتزوّد بقطعة نقانق وكسرة خبز ولترين من البيرة، وهي وجبة مثاليّة تذكّرني بوصف وجبات الغداء لدى المتشرّدين، الذين تعجّ بهم كتب هامسن، وهيسه، ولندن وحتّى موباسّان حيث يسحب البطل دائمًا من جرابه، عند مفترق طرق، قالب لحم مفروم، قطعة خبز، وزجاجة خمر شفّافة. على الضّوء الشّماليّ، أقطع شرائح خبز، وأنا جالس على درجة المدخل الخشبيّة، منشغل بأسئلة وجوديّة من نوع "كيف أثبّت الصّنّارة على قصبتي بكيفيّة أفضل؟". لم يزرني أحد. النّاس منهمكون في أشغالهم. هذه القرية تعجبني كما هي: لا سكّيرٌ ولا مُنتشٍ بالنّيومركنتيليّة. غير أنّ اللّيلة ستكون قصيرة. ما إن نمت، حتّى أيقظني عملاق ذو شعر أشقر. دخل العزبة دون ضجيج. ووقف منحنيًا فوق رأسي. أوّل ما رأيت منه عيناه الزّرقاوان الحزينتان والنّديّتان قليلًا ربمّا لكثرة التّطلّع إلى النّهر. نهضت. أبخرة أنفاسه الكحوليّة تخترق ضباب نعاسي. مدّ إليّ باقة أزهار وقال بصوت ثقيل:

- خذ، هديّة من الفرقة! ليلكٌ أبيض قُطف خصّيصًا للفرنسيّ. أنا أندراي، ربّان غراد. سفينتي راسية عند مخرج القرية. موعدنا غدًا صباحًا. الفطور، السّابعة.

عندما خرجت من القرية من الغد لألبّي دعوة الرّبّان، صادفت ثلاثة شيوخ جالسين على مقعد. هل بسبب مشيتي الحازمة أم لأنّهم علموا أنّي فرنسيّ، قالوا عند مروري: "لن يمرّوا!"، فأجبت لإرضائهم: "نورماندي-نيمن!" (قبل سنوات، في أفينيون، وأنا محمّل بحقيبة ظهر وعلى رأسي قبّعة من الرّيش، صادفت متسكّعين روسيّين حييّتهما فصاحا في وجهي: "عاش الكومسومول!". دائمًا ما أثير لدى السّلاف ردود فعل غريبة).

السّفينة هي عبارة عن باخرة مرفاعيّة تُستخدم لنقل الحطب من الغابة. في الصّيف، يعرض الرّبان خدماته على حطّابي القرى النّهريّة. استُقبلتُ بصفير زمّارة بحريّة. قدح الشّاي الذي دُعيت إليه في مشرب السّفينة يتألّف ممّا يلي: قدح صغير من الفودكا - شريحة سالامي - قدح صغير من الفودكا - شريحة صُهارة خنزير (صافية) - قدح صغير من الفودكا - شريحة سالامي - قدح صغير من الفودكا - شريحة طماطم – قدح صغير من الفودكا - فُجل - قدح صغير من الفودكا - قطعة خيار. كانت السّاعةُ السّابعةَ صباحًا. الخضر تزرع في السّفينة تحت دفيئة من البلاستيك وضعت بين كوّتين، في جؤجؤ السّفينة. الزّاكوسكي - تلك الأطعمة التي تؤكل بلقم صغيرة بين كأسين لتسهيل مرور لهب الفودكا - تناقصت، ففتح أندراي عندئذ زجاجة بيرة شقراء تقوم مقامها وتواصل الفطور: قدح صغير من الفودكا - كوب كبير من البيرة - قدح صغير من الفودكا...

- هل تدري لماذا لن يقدر الرّوس على شرب محيط من الفودكا؟ سألني أندراي بصوت خفيض، إذ صار يتحدّث بمزيد من الخفوت كلّما ازداد سكره.

- لا، قلت وأنا أترنّح قليلًا (هل كان بسبب تموّج على سطح لينا؟)

- لأنّه لا يوجد ما يكفي من الزّاكوسكي!

- طريف.

- هو أقلّ طرافة من نيّتك الذّهاب إلى الهند مشيًا! القوزاق الذين أسّسوا ياكوتسوك قضّوا سنتين للوصول إلى تشيتا، في جنوب سيبيريا. وأنت تزعم أنّك ستصل إلى الهند في بضعة أشهر! لنشرب! على نخب الكبرياء!

شربنا في جرعة واحدة قدحًا صغيرًا آخر – السّابع ربّما. 

- على الأقلّ، أنت لست خائفًا، قال لي. 

- بلى أيّها القبطان، أخاف الدّببة.

- إذا وجدت نفسك وجهًا لوجه مع الدّبّ، فعليك ألّا تهرب أو تنظر إليه. خاطبْه بلطف بالفرنسيّة أو بالرّوسيّة وتراجع ببطء. وسوف ينصرف. 

- أنت واثق أنّها الطّريقة الجيّدة؟

- كلّا؛ الطّريقة الجيّدة هي أن يكون لديك بندقيّة؛ أمّا تلك فهي طريقة المجانين الذين لا يملكون بندقيّة. ما ينبغي أن تعرفه هو أنّ وجودك أمام الدّبّ وجها لوجه، ببندقيّة أو من دونها، سوف يسبّب لك بطبيعة الحال مغصًا، وهو انعكاس خوف طبيعيّ.

تمثالٌ رأسي للينين في "ساحة سوفيتوف" بمدينة أولان أودي في سيبيريا، 1983 (Getty)
تمثالٌ رأسي للينين في "ساحة سوفيتوف" بمدينة أولان أودي في سيبيريا، 1983 (Getty)

في مركز القيادة، تفحّصت الخرائط النّهريّة التي دلّتني إلى ثلاثة معابر قادمة فوق المياه العميقة. وإذ ملكتني رغبة ملحّة في المشي لأسيل السّمّ المجروع هذا الصّباح، استأذنت الرّبّان في الانصراف. سيكون المشي في هذا اليوم بطيئًا ووعرًا. ولكنّ الطّريق تنظّف، وبعد سبع ساعات من الجهد، وصلت مطهَّرًا إلى استراحة المساء: كفر خرب في فرجة غابيّة جميلة مقدّمة نحو النّهر. نزلت بالعزبة الأقلّ خرابًا. في الخارج، ألغى ضوءُ عاصفةٍ خطوطَ المشهد الطّبيعيّ. ثمّ، كما هي الحال في المسرح، ارتفع السّتار القرمزيّ وحطّمت العاصفة كلّ شيء في طريقها: السّحب والحشائش البرّيّة وبقيّة النّهار.

تمرّ الأيّام، وتمرّ معها القرى. بعضها بُني في عهد ستالين، أحيانًا على أنقاض مبان قديمة يسكنها ياقوتيّون. تشكّل تلك القرى حفرًا صغيرة في معطف الغابة: فالإنسان عثّة في سيبيريا، والرّوسيّ، الهائم في لانهائيّة السّهل، لن يكون مهما فعل سوى نقطة على الخريطة. بخلاف السّويسريّ، الذي يشغل مكانًا أوسع. تلك حتميّة. بيد أنّ بعض الكفور قديمة نوعًا ما، مثل أوليوكمنسك، التي أسّسها جنود القيصر تحت إمرة القوزاقي إيفان بيكتوف. وحيدين في أرض بكر، متقدّمين بمسافة آلاف الكيلومترات على كلّ الأراضي المعروفة، مستصلحين أراضيَ بيضاء والرّبّ في الجسد والإمبراطور في الأحشاء والفأس في السّاعد، أسسّوا مركز ثكنة محاطة بسياج من الحطب، على حافة النّهر، ثمّ انتظروا بضع سنين بعثة لتعويضهم وتكبير الموقع المتقدّم. وذلك ما أطلق عليه غزو سيبيريا: كوكبة أكواخ بائسة غارقة في لانهائيّة الغابات. فالإنسان مدعوّ دائمًا إلى استخدام كلمات فوق إمكاناته...

بين القرية والقرية، لا أحد. أسير بالنّسبة نفسها في المستنقعات والسّاحل الرّمليّ، متأرجحًا بين هذا وتلك حسب التّقلّب اللّعين للإنسان، ذلك التقلّب الذي يعيده دائمًا إلى الأرض التي تركها توًّا، وهو على يقين بأنّ المشي سيكون فيها أسهل والحال أنّه تركها منذ لحظات لسبب معاكس. تغذّيت بنقانق وخبز أحملها في جرابي، وأفكّر بتلذّذ حين يأزف أوان الاستراحة كم يفوق وضعي وضع الهاربين، وأنا الذي يحمل معه الأطعمة والعدّة، أنا الذي لا أحد يطارده، أنا الذي سار باختياره هذا السّير الشّاقّ.


* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي

المساهمون