الأدب "سياسيّ" بقدْر ما كلُّ قول هو إشارة وإضافة مرسلة إلى آخرين، بقدر ما كلّ قول ــ حتى البسيط اليومي ــ إسهامٌ في كيف يكون العالم، أو كيف نحبّ أن نراه، وهو أحياناً عالمٌ نتخيّله، ما زال بعيداً.
أمّا إنْ لم تكن السياسة اقتراحاً في كيف يكون العالم، وفي حال أنها انكمشت واختُزلت حتّى لم يبق منها سوى الخطط والمناورات اللازمة للوصول إلى السلطة والمنصب، فبئس تلك السياسة.
هل الأدب بالضرورة سياسيّ، وهل الأديب بالضرورة سياسي؟ ما أراه أنّ كلّ أدب يحمل في بنيته وفي جذوره مضموناً فكرياً، اقتراحاً في كيف يكون العالم، سواء أتعمّد ذلك أم لا، سواء أأدرك ذلك أم لا.
لا نستطيع حتى الآن أن نتحدّث متأكّدين عمّا "قبل الثورة" وعمّا "بعدها" في الفنّ كما في الأدب (أتحدّث هنا عن الربيع العربي عموماً). أميل إلى ترجيح أنّ "ما قبل" سيُعيدنا إلى بحْث الفنّ والأدب منذ الستينيات وما تلاها؛ في تلك الفترة تكوّنت ملامح الأدب والفن اللذين عاشا في عهد الاستبداد، ومنهما ما نشأ برعاية هذا الاستبداد، ومنهما ما رَوَّج له.
من ملامح هذه الرعاية: خطابية جوفاء، ورومانسية ركيكة، وعدمية مفتعلة ومتفذلكة، وماورائية بملامح عشائرية واستشراقية، وادّعاء لعالمية متسوِّلة تعتمد على الاحتيال، الاحتيال على جمهور مجهّل يؤمن فوراً بكلّ ما اعترف به "الأجنبي".
كلّ أدب يحمل في جذوره اقتراحاً في كيف يكون العالم
لكنّ هذا لم يكن كلّ شيء؛ إذ كانت هناك أيضاً تحوّلات هامّة حدثت وراء الواجهة وتحت السطح الكتيم الرماديّ للاستبداد. كانت تُنتش بذورُ فنّ جديد وأدب جديد في أثناء هذه الحقبة أيضاً؛ بذور متفرّقة، متباعدة، صوتها ضعيف لا يصل، لكنّها كانت موجودة، ابتداءً من التسعينيات ربما: أقلام جديدة صارت تكتب بطريقة ابتعدت عن النموذج السائد ذاك، متخلّيةً عن أوهام الأسلوب "الفخم" و"جهارة" الكلمات والنبرة، متخلّيةً عن الرومانسية الخطابية ومفكّكةً لها؛ كتابات عديدة جدّاً تحمل ــ ضمناً ــ سخرية وهزءاً من رياء الخطاب القديم بمجمله.
هناك الكثير ممّا يمكن أن يقال عن رياء الخطاب في الأدب والفن، الذي شكّل امتداداً لرياء السلطة السياسية وكذبها القديم المزمن. هذه الاستمرارية الكارثيّة قطعتْها الثورة، لكنّ قطعاً كهذا ــ إن افترضناه ــ لا يمكن أن يكون "بتراً"، إذ ليس ثمة سورٌ يفصل ما قبل عمّا بعد، أو أنّ انقطاعاً كهذا لم يتّضح بعد.
انقطاعٌ كهذا، وتحوّلٌ كهذا، مرتبطان، كما أرى، بمآلات الثورة نفسها وبتكوُّن ملامحها، عندما نتحدّث عن الثورة في مفهومها الأوسع، وبصفاتها الممتدّة في الزمن. وإذا ما تَعلّمنا من التاريخ أن الثورات لا تُختصر في حقبة واحدة ولا بـ"موقعة" واحدة، بل تستمرّ أجيالاً، وقد لا تأخذ شكلاً نهائياً في يومٍ ما، فإن الفن والأدب الأهمّ، واللذين لم يأتيا بعد، لن يكونا في "مديح" الثورة هذه، بل في مديح الثورة التي تليها...
* شاعر سوري مقيم في باريس