رغم أن المسار الأساسي الذي حكم التصوّف في التاريخ الإسلامي تمثّل في ابتعاد منظّريه وأفكارهم عن الشأن العام، إلا أن المحاولات المتعدّدة للخروج على هذا النهج والتي قادها عدد من رموزه في محطّات عديدة، منحازين في ذلك للفقراء والمهمشين أو في استلهام تصوّفه في محاربة الطغيان والاستعمار، تركت أثرها حتى اليوم لدى كثيرين، إضافة إلى دورهم في تشكّل معرفة فلسفية حول غاية الإيمان.
"الحكاية الرّمزيّة الصّوفية في القرنين السّادس والسّابع الهجريّين.. خصائصها الفنّية ودلالتها الفكريّة" عنوان الكتاب الذي يصدر قريباً للباحثة التونسية مريم الدزيري عن "دار خطوط وظلال"، بتقديم الناقد عبد العزيز الشبيل، وهو يناقش جانباً من إرث التصوف وانعكاساته في الأدب.
ونبّه التقديم إلى إدراك المؤلّفة "ما عرفته الحكاية الرّمزيّة من تحوُّلٍ من مجرّد طريقٍ للتّعبُّد إلى سبيل بكرٍ للمعرفة ثمّ إلى شكلٍ طريف من أشكال الكتابة الفنّيّة. وقد قادها ذلك إلى استخلاص عديد الاستنتاجات الطّريفة، مثل تحوُّل الرّحلة والمعراج من حيّز التّجربة الدّينيّة إلى مجال المعرفة، وتداخُل السّرد والحوار في الحكاية الرّمزيّة، وتناوُب النّثر والشّعر أحيانًا".
يدرس الكتاب "رسالة العقل الأحمر" للسهروردي و"منطق الطير" و"مصيبت نامه" لفريد الدين العطار
كما لفت الشبيل إلى "احتلال المُناجاة حيِّزًا هامًّا فيها تداخلت فيه "المقامات" و"الأحوال". كما تفطّنت إلى الحضور الكثيف للقرآن الكريم والحديث النّبويّ والمدائح النّبويّة وخصوصًا الابتهالات، بما أكسب تلك الحكايات نفَسًا دينيًّا واضحًا يكشف عن انغراسها في تربة إسلاميّة ناصعة".
وتدرس الدزيري ثلاثة من آثار التصوف يربط بينها خيط جامع وهو انتماؤها إلى مجال الحكاية الرمزية الصوفية الفارسية، وهي "رسالة العقل الأحمر" للشاعر شهاب الدين عمر السهروردي المقتول (1155 – 1191)، ثمّ منظومتا "منطق الطير" و"مصيبت نامه" للشاعر فريد الدين العطار (1142 – 1221)، حيث تطرح التساؤلات التالية: ما هي الآفاق التي يمكن أن تفتحها لنا دراستنا للأدب الصوفي الفارسي؟ وهل يمكن دراسة الحكاية الرمزية الصوفية بمعزل عن التصوّف الفارسي؟ وما هي الإضافة التي قدمّها الأدب الصوفي الفارسي للأدب العربي الإسلامي؟
في الباب الأوّل، تناقش المؤلّفة بنية الحكاية الرمزية الصوفية من خلال فصلين، أوّلهما حول البنية الخارجية للحكاية وعلاقة الحكاية الصوفية الفارسية بحكايات سبقتها زمنيًا، سواء كانت عربية أو فارسية، والثاني عن البنية الداخلية للحكاية، وبمميّزات الحكاية الصوفية الفارسية ومكوّناتها ووجه الفرادة فيها.
ويبحث الباب الثاني في البنية السردية في السرد والحوار في الحكايات وكيف تمثّلا في هذه الحكايات وما الذي ميّز الأسلوب في الحكاية الصوفية الرمزية الفارسية وأهمّ الأجناس الأدبيّة التي شكلّتها، وفي مقوّمات القصّ.
ويلفت الباب الثالث، "الثابت والمتحوّل في الحكاية الرمزية الصوفية"، الانتباه إلى أنّ الحكاية الرمزية الصوفية لم تنطلق من عدمٍ بل نهلت من حكايات وأجناس أخرى سبقتها زمنياً، فارسية وعربية، لتحقّق فرادتها الخاصّة بها، بينما يهتم الفضل الرابع بالدلالات الفكرية للحكاية الرمزية الصوفية، حيث يتجلّي الجمال في هذه النصوص الصوفية، ومفهوم العشق، والمعرفة أو العرفان لأنّ كلّ تصوف هو طريق إلى المعرفة.
وتبيّن الديزيري أن أبرز الصعوبات التي واجهتها تتمثّل في صعوبة العثور على المصادر والمراجع اللازمة، بسبب ندرة المصادر والمراجع التي اعتنت بالأدب أو الأدب الصوفي الفارسي، ما دفعها إلى زيارة مكتبات مختصّة في إيران، والالتقاء بمجموعة من الأساتذة المختصين في التصوّف والأدب الصوفي هناك، وترجمة بعض النماذج الأدبية في هذا المجال.
وتخلص المؤلّفة إلى مساهمة الحكاية الرمزية الصوفية في تعالق الأدبين العربي والفارسي، وإلى أنّ الأدب الصوفي يؤسّس لمنظومة قصصية عربية إسلامية، وهو ما يفنّد الرأي القائل إنّ الأدب العربي لم يعرف القصة ببعض ألوانها ليقدّم القصّة الصوفية على أنّها مثال للقصة الخيالية والرمزية، لترسم بذلك الإضافة العربية في مسارات الحكاية الصوفية الفارسية.