تمتدّ مدوّنة الكاتب التونسي مصطفى الكيلاني (1953) على أكثر من خمسين مؤلَّفاً موزّعة بين الفكر والنقد والكتابة الأدبية، وهذا التنوّع يعبّر عن طيف انشغالات واسع، متعدّد المراجع والمتون، وهو إلى ذلك يعبّر عمّا يسمّيه الكاتب بـ"حيرة الأساليب"، وفق عبارة وردت في معرض كلمته التي ألقاها أول أمس في نهاية ندوة تكريمية لمُنجزه نظّمها "منتدى الفكر التنويري التونسي" امتدّت ليومين في مدينة سوسة.
يحتاج هذا التنوّع لدى الكيلاني إلى مقاربات شتّى، وهو ما يبرز من خلال طيف المشاركين في الندوة بين المختصّين في الأدب مثل ثامر الغزّي ولسعد بن حسين، والمشتغلين بالفلسفة مثل معز الوهايبي، ناهيك عن مقاربات أُخرى كالتي قدّمها نجل الكاتب ومترجم بعض أعماله مروان الكيلاني.
وفي المحصّلة، تبدو مدوّنة صاحب كتاب "ثقافة المعنى الأدبي"، مثل مدينة عربية قديمة، متشعّبة ومتعدّدة البوّابات. صورة يترجمها كتابٌ جُمعت فيه أوراق الندوة حمل عنوان: "مصطفى الكيلاني.. الكاتب المُنشَقّ"، صدر ضمن سلسلة "أعلام الثقافة التونسية" التي تُصدرها وزارة الثقافة التونسية.
ضمن مداخلته، تناول الباحث ثامر الغزّي العلاقة التي عقدها الكيلاني مع محمد بن عبد الجبار النفّري، حين يدرس قراءة الكاتب التونسي لكتاب "المواقف والمخاطبات"، ومنها يُبرز مواطن "المُرُوْق" في كتابة الكيلاني وتأويلاته، ويُشير الغزّي أن استعماله لمصطلح المُرُوْق لا يأتي من منطلق الأحكام العقائدية بل من منظور الدلالة المعجمية المحايدة، أي "الخروج عن الأسوار المحدّدة مسبقاً"، ويبيّن ذلك من خلال دراسة نماذج من تناول الكيلاني لمفاهيم صوفية مثل "وحدة الوجود" و"الحلول" و"ثنائية الأنت والسوى"، وصولاً إلى اعتبار أن الكيلاني خرج "عما استقرّ عند الدارسين للشطح الصوفي".
مقاربة معز الوهايبي كانت من منطلق تخصّصه في الفلسفة، وقد أشار إلى أن الاشتغال على النقد الأدبي والفني يبدو غالباً على مسيرة مصطفى الكيلاني، لكن ذلك "لا يعني أن مراسه النقدي يتم في إطار المتابعة التقنية للمدوّنة الأدبية، وإنما هو ينتخب عادة لقراءاته مفهوماً أو مفاهيم يُجريها في مقاربته مجرى البراديغم" ويُذكر بالخصوص اعتماده على مفهوم "النقصان" النابع من الفلسفة الوجودية لقراءة النصوص، ومنها مجمل الواقع العربي.
أما كلمة الكاتب التونسي لسعد بن حسين فأخذت منحىً طريفاً، فقد كانت محاولة في إثبات أن التحديد الأجناسي لأحد أعمال الكيلاني، كتابه "مدن وتوابيت" (2020)، "ليس كما حدّده المؤلّف وناشره، أي رواية، وإنما هو عمل مسرحي، وتحديداً مونودراما"، ويعمل على إثبات ذلك من خلال دراسة العتبات ثم النص، ويخلص بن حسين إلى أنه أقصى ما يمكن أن يُوصف به هذا العمل، إذا أصررنا على وضعه تحت سقف التصنيف الروائي، أنه "مقطع من رواية" والأرجح أنه مسرحية "تنقصها الدراماتورجيا اللازمة ليستوي عرضاً مسرحياً متكاملاً".
جدل التحديد الأجناسي خاضه أيضاً المُترجِم مروان الكيلاني، وهو الذي خبر هذا النص من خلال العمل على نقله إلى الإنكليزية، حيث أظهر أن لـ"مدن وتوابيت" بُعداً شعرياً، وهو منظور استخدمه المترجم جاعلاً من توزيع النص في النسخة الإنكليزية على شاكلة "قصيدة مسترسلة".
لاحقاً أدلى مصطفى الكيلاني بدلوه في مسألة جنس نصه "مدن وتوابيت"، معتبراً أن "النص الذي يختلف فيه القرّاء دليل على أنّ النص مختلف"، ويحاول هنا أن يشرح مفهوم الاختلاف بكونه ما يُفلت من محاولات "تثبيت النظرة"، ليُشير إلى أنّ هذا الجدال حول جنس النص قد يكون محسوماً منذ عقود حين ظهر مفهوم "الرواية المُضادّة" في الغرب، معتبراً أنّ هذا الجدل يؤكّد ما يختبره عند لحظة الكتابة من "حيرة الأساليب"، ويقول في هذا السياق: "حتى داخل الجنس الأدبي الواحد، أجدني لا أطمئنّ".
يأخذ الكيلاني مسألة عدم طمأنينة الكاتب من فضاء الأجناس إلى حقل المصادر المعرفية والفكرية، حيث يُعلن عدم طمأنينته إلى المصادر التي يؤسّس بها قراءاته. وإذا كان من المعروف استنادُه إلى فكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، والذي تجلّى في أحد بواكير تأليفاتها كتابه "وجود النص - نص الوجود"، فإنه يقول: "أطمئنُّ إلى هايدغر في مسائل النص والفنّ، ولكنّني لا أطمئنّ إليه في فهم التاريخ، هنا أطمئنّ إلى هيغل أكثر".
حديث المصادر المعرفية التي تُرفد الكتابة قادت الكيلاني للإشارة إلى إشكالية التفرقة الحادّة بين الأدب والفكر لدى الباحثين العرب، وهو ما يسعى إلى تجاوزه، ضارباً مثال قراءة هيغل التي يرى أنها لا ينبغي أن تكون اختصاراً للنصّ في مقولات فلسفية، بل ملامسته من زوايا أُخرى كي تظهر بنيته المتراصة. بشكل أشمل، يؤكّد الكيلاني على "ألا ننطلق من مُسبقات في قراءة النصوص كي لا نصل إلى مُسبقات".
وضمن مقارباته لإشكاليات الثقافة العربية، يُضيف الكيلاني مستوىً آخر يسمّيه بـ"عقدة الأجداد" ضرب عليه مثلاً بابن خلدون الذي جرت قراءته بشكل متكلّس ظاهري فاختُزل في عقلانيته، لكنه أشمل من ذلك فصاحب المقدّمة "شكوكي ذو ميول صوفية"، هو - كما يقول الكيلاني - "في وضع ما بينيّ"، ويرى أن هذه "الما بينيّة هي موطن الإبداع".
اختتم صاحب كتاب "الأنتليجنسيا التونسية" حديثه بشيء من الحميمية حيث عبّر عن سعادته بهذا الاحتفاء الذي ذكرّه بحكايا من مشواره الإبداعي، منها أن أكاديمياً إيطالياً كان قسيساً معجباً بقراءاته وتأويلاته في النصوص الدينية، وقد قال له ذات يوم "لو عاد بي الزمن لتزوّجتُ وأنجبتُ طفلاً هو أنت".
يُشير الكيلاني إلى أن صيغة هذه العبارة تلحُّ عليه، وضمن قالبها قال مختتماً حديثه: "لو عاد بي الزمن إلى الوراء لأحببتُ أكثر مما أحببتُ، ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لكرهتُ أقل مما كرهتُ. ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لقرأتُ أكثر، أكثر مما قرأتُ، ولكن لا مرّد للذي كان...".