قبل شيوع وباء كورونا، وتحديدًا خلال شهر فبراير/شباط الماضي، حققتُ إنجازًا مهمًا على صعيد مساري الأدبي. وهو إنجازٌ ما زلتُ أتذكره باغتباط مع قليل من تضخّم الذات. يتعلق الأمر بكتابي الأخير، والذي بعتُ جميع نسخه في جلسة واحدة خلال حفل التوقيع بمعرض الدار البيضاء. وهل هناك إنجازُ آخر ينتظره الكاتب غير نفاد بضاعته أو إصابته بالسرطان؟
صراحة، اندهشتُ أمام هذا الجيش العرمرم الذي لا أدري من أين تدفق أفراده، ووقفوا أمامي كما لو أنّني أوزّع أكياس الدقيق أيام المجاعة. وقد استدعيت من جهتي شرطيّا تكفل بتنظيم الصفوف، فيما أخذتُ أوقع النسخة تلو الأخرى مُنوِّعًا الصّيغ وساكبًا الحنان بين سطوري إلى أن أتيتُ على النسخة الأخيرة بالهمّة نفسها التي وقعتُ بها النسخة الأولى.
تذكرّت محمد شكري وهو يوقع "الخبز الحافي" في نادي الكرة الحديدة بالرباط ذات عام بعيد، وذلك بعدما أن تمّ الإفراج عن كتابه لأول مرة من طرف حكومة الاشتراكيين.
كان المكان غاصًا بالذين جاؤوا من مختلف مدن المغرب يطلبون الخبز من شكري الذي كان يوزّعه في ذلك المساء على مهل، ومتوقفًا بين حين وآخر كي يدخن سيجارة ويستريح قبل أن يواصل، بينما استثمرتُ أنا قدرتي على تحمل القسوة ووقعتُ خمسمائة نسخة دفعة واحدة.
فكّرتُ في أن أدفع عنه الحرج وأطلب منه أن يوقع لي نسخة من كتابه
لا، لا. أنا أكذب. للأمانة لم أوقع سوى نسختين، واحدة لصديق رافقني في السفر، وأخرى لصديقي وديع الذي استضافني في بيته بالدار البيضاء ككلّ مرّة، ثم بعد ذلك جلستُ أتفرّج على نسخ كتابي مدّة قصيرة استعدتُ خلالها بعض الحقائق المؤلمة، قبل أن أتوجه مع الأصدقاء إلى مسجد الحسن الثاني حيث التقطنا صورًا وضحكنا تشفيا في الكتب ورائحتها.
هالني هذا الكبرياء وهذا الصمت وأنا أرفع رأسي إلى أسوار المسجد وأضلاع المئذنة العالية. تذكرتُ الملك وهو يطل من التلفاز ذات مساء بعيد داعيًا شعبَه العزيز إلى المساهمة في بناء المسجد ولو بدرهم رمزي، حينها تلقف وزير الداخلية إدريس البصري الخطاب الملكي بطريقته، وأصدر تعليماته الصارمة لأعوان السلطة والشيوخ لجمع التبرعات من المواطنين في أقل من أربعين يومًا.
لم يكونوا رحيمين بالمواطنين البؤساء الذين وجدوا أنفسهم يدفعون على مضض الدرهم مضروبًا في مائتين في أحسن حالات عطف أعوان الوزير، بل سمعتُ بأن الشّيوخ في البوادي كانوا أكثر خبثا مع الفلاحين الذين يرتعبون لمجرد مرور سيارة الدرك الملكي. تذكرتُ كيف أن الحياة كانت مظلمة وقاسية، بلا طرقات ولا كهرباء، ولا إنترنت ولا صحون هوائية!
بعد أسبوع عدتُ إلى المعرض، وصادفتُ أحد الشّعراء يجلس وحيدًا فوق كرسي في زاوية إحدى دور النشر العربيّة وهو يُداري اليتم بكتابة شيء على الورقة. فكّرتُ في أن أدفع عنه الحرج، وأطلب منه أن يوقع لي نسخة من كتابه، غير أنني تراجعت، وقلتُ في نفسي لا بدّ له أن يمضغ المذلة مثلي، وبالتقسيط كي يتوقف عن إتلاف الشجرة والغابة.
(كاتب من المغرب)