لم تعد ثيمة الإصلاح غريبة على الفن المعاصر، عربياً كان أم أفريقياً، أو حتى أوروبياً. ففي عالم يعيش التمزّق والقطيعة أكثر من أيّ وقت مضى، يصبح ترميم ما انكسر، ووصل ما انقطع، وإعادة تركيب ما تفسّخ، أمراً لا يمكن للفنان الهروب منه.
في هذا المناخ العام، يأتي معرض "تفكيك"، الذي افتُتح في "المدينة الدولية للفنون" في باريس يومَ السادس عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري ويستمر حتى الثالث عشر من آذار/ مارس المقبل، بمشاركة ستّة عشر فنانة وفناناً من سورية وفلسطين ولبنان والعراق والجزائر وتونس وإيران والكونغو وفرنسا.
للوهلة الأولى، يبدو العنوان العربي للمعرض مفاجئاً، بل معاكِساً للمسعى الذي تشترك فيه أغلب الأعمال المعروضة، وكذلك لعنوانه الفرنسي، الذي يشير إلى إصلاح ما عطِبَ أو تمزق وإلى استعادته. لكننا، عند مشاهدة الأعمال المختلفة للفنانين والفنانات، نتذكّر أنه ما من ترميم وإصلاح إلا ويتضمّن، في واحد من مراحله، عمليّة تفكيك.
الحديث هنا عن تفكيكٍ للعنف، للخطاب السائد، لخطاب الاستعمار وللألم أو التعذيب الذي يقاسيه كثيرٌ من البشر، لا سيّما المهاجرون والمنفيون ومَن يرضخون تحت حكم الدكتاتوريات وحروبها، أو تحت سلطة الاستعمار. ولا بدّ من القول هنا إن هذه الفئة الأخيرة من البشر هي الأكثر حضوراً وتمثيلاً في الأعمال المعروضة، والتي تحمل توقيع الفنانين والفنانات عزّة أبو ربيع، وقادر عطية، ومجد عبد الحميد، وبادي دلّول، وخالد ضوا، وخلود هوّاش، وسامي بلوجي، ويعقوب بيزونيه، وأناهيتا حكمت، إضافة إلى كاتيا كاملي، وفرح خليل، ورندا مداح، وسارة وحّادو، وخليل رباح، ورامو، ومها يمّين.
العمل على الترميم والإصلاح يتمظهر بشكل كبير في أعمال الفنان الجزائري قادر عطية، والذي يسائل منذ سنوات مسألة العلاج وإصلاح ما انعطب، خصوصاً في الجسد البشري، جرّاء العنف الاستعماري أو الدكتاتوري، وكذلك في النفس البشرية، جراء الصدمات والحروب والمنفى.
الأمر نفسه ينطبق، إلى حدّ بعيد، على اشتغالات الفنانين السوريين المشاركين، وخصوصاً أعمال خالد ضوّا، التي تتناول ما هو مفكّكٌ أساساً، أي بقايا المنازل المدمّرة بفعل قصف النظام السوري وحلفائه، أو الأجساد والأرواح التي لا تعيش تمزقاً أقلّ قسوةً من ذلك الذي تعرفه البيوت.
المقاربة ذاتها قد تأخذ شكلاً آخر، كما هو الحال مع صور وفيديوهات الفنانة الجزائرية الفرنسية كاتيا كاملي، التي تقدّم لمحات نقدية وتحليلية لتاريخ استعمار الجزائر وتاريخ البلد نفسه؛ أو أنها قد تشكل شكلاً توثيقياً، كما في الرسومات التي صوّرت فيها الفنانة السورية عزة أبو ربيع عالم زميلاتها السجينات داخل واحد من سجون النظام السوري الذي قضت فيه أربعة أشهر؛ حيث يعطي اللونان الأسود والأبيض في رسوماتها صورة عن وحشة هذا العالم، وعن الانقسام الذي يمثّله بين الحرية وبين قمعها، بين نورها وظلام السجن، وكذلك بين العدالة وبين الظلم.
وكما يذكر بيان منظّمي المعرض ("المدينة الدولية للفنون" وجمعية "أبواب مفتوحة على الفن")، فإن الفنانات والفنانين المشاركين لا يطمحون إلى مقاربة مواضيع الهجرة، أو حتى المنفى والحروب، عبر شهادات فنية بقدر ما يحاولون "إصلاح أماكن حميمية" وإعادة تركيب مخيالاتٍ سياسية. إلى جانب الرسومات والصور والفيديوهات، يضمّ المعرض أعمالاً تستخدم وسائط فنية متعدّدة كالقماش أو الأغراض المنزلية، إضافة إلى منحوتات وأثاث منزلي ووثائق أرشيفية.