مع غزّة: أحمد دلباني

24 مارس 2024
أحمد دلباني
+ الخط -
اظهر الملخص
- الباحث الجزائري يناقش تأثير العدوان على غزة على الإنسانية والحضارة الغربية، مشيرًا إلى كشفه لزيف الشعارات الإنسانية وهشاشة الحقوق الإنسانية أمام البربرية.
- يتطرق إلى تأثير الأحداث على حياته اليومية والإبداعية، معتبرًا الإبداع مقاومة للموت وحارسًا لوجه الإنسان وذاكرته، وينتقد الحداثة الغربية المعطوبة.
- يختتم بالتأكيد على أهمية الإبداع كوسيلة للتعبير عن الانتفاضة الروحية والإنسانية ضد أعطاب الحداثة، معبرًا عن شغفه بالعزلة والتأمل.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء: "كتابي الأخير عن غزّة انتفاضة روحية وإنسانية ضدّ أعطاب الحداثة الغربيّة"، يقول الباحث الجزائري لـ"العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- ما يشغلني في ظلِّ العدوان الهمجيّ غير المسبوق على غَزّة الجريحة، فضلاً عن همِّ التعاطف الإنساني العميق مع المُحاصَرين الجائعين الذين يتعرّضون للإبادة، هو الأسفُ الشديد على ما آلت إليه صورة الإنسان الذي توهَّم، طويلاً، أنّه يفتتحُ أقاليمَ التحضّر والتمدّن والتضامُن البشري وأخلاقيّة التواصل والاعتراف في أدبياته الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة. لقد كشف وجهُ غَزّة الشهيدة، من وراء مشاهد الدمار والقتل والتهجير ومحو معالم الحياة، عن زيف ادِّعاءات الشعارات الكبرى، وبيانات الحقوق الإنسانيّة ومدى هشاشتها أمام نوازع البربريّة والعدوانيّة التي يبدو أنها لا تزال تمثّل، بصورةٍ سافرة، القوى العمياءَ التي تصنعُ التاريخ، أو كما قال الراحل محمود درويش: "لا تكتب التاريخ شعراً/ فالسلاحُ هو المُؤرِّخ".  


■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟

- لقد حوَّل هذا العدوانُ الصهيونيُّ الهمجيُّ يومياتنا، على الصعيد الإنساني، إلى جحيم. ودفع بي، شخصياً، إلى مراجعة الكثير من الأمور التي كانت تُؤسِّسُ للرؤية الفكرية والفلسفية المتحدِّرة من ميراث "الأنوار"، وهو يُزيح الآلهة من المشهد ويُدشّن أعيادَ تنصيب الذات الإنسانية في مركزٍ ظَلَّ حكراً على التعالي والمُقدَّس. ولكن يبدو أنَّ "السماء الفارغة" التي اعتقدنا، طويلاً، أنّها حرَّرت الإنسانَ من ارتهانه وعبوديَّته للمطلق، لم تكن كافية لتأسيس حداثةٍ إنسانيةِ الوجهِ والقفا. فكل ما يشهدهُ العالمُ اليوم، ليس إلا نتيجة للحداثة المعطوبة التي حرَّرت إرادةَ القوة من هواجس العلوِّ الأخلاقيِّ، وجعلت من انتظار ولادة "نشيد الغِبطة" شيئاً عبثيّاً في عالمٍ أصمّ. وإذا كان صديقي أدونيس قد كتب في آخر قصائده "متى يبدأ الغدُ الذي يُسمَّى الإنسان؟"، فإنَّني بالمقابل لا أملك تفاؤله في ظلّ حداثةٍ أفلست على كل مستوى. وربما كان الأجدر بنا، اليوم، أن نتساءل ونحنُ نضعُ الحداثة على مقعد الاتهام: هل خلاصُ الإنسان يأتي، حقاً، من جهة الإنسان؟

أي تفاؤل نملك في ظلّ حداثةٍ أفلست على كلّ مستوى؟


■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- أعتقدُ أنَّ العمل الإبداعيَّ بمفهومه العميق ليس مُمكناً فحسب، بل هو ضروريٌّ. فكل عمل إبداعيٍّ، كما هو معروفٌ، شهادةٌ على الإنسان. إنَّه صوتُ الإنسان وأثرُ أقدامهِ في الغبار الكونيّ. لقد تعلّمنا هذا من "ملحمة جلجامش" التي وعدت بخلود الإنسان من خلال إنجازاته وإبداعاته. وبهذا يُمكن اعتبارُ الإبداع مقاومة عنيدةً للداء القديم: أعني الموت. من هنا فالعمل الإبداعيُّ يكون، في لحظاتِ العدميّة التي يكشفُ عنها انفلاتُ مارد الحرب مثلاً، حارساً لوجه الإنسان الهشّ، وبيتاً لذاكرته وكينونته التاريخيّة المُتميزة. وأعتقدُ، انطلاقاً من ذلك، أنَّ الإبداعَ بيتُ الهويّة العميقة التي تتأبَّى على الطمس. ولك أن تلاحظ كيف أنَّ الأعمال الإبداعيّة الكبيرة ظلت دائماً حصناً منيعاً أمام إرادة المحو المُبرمج. وبالتالي، فما نشهده حالياً مع الهجمة البربريّة الصهيونيّة - الغربيّة، يجبُ أن يُواجَه أيضاً بالكلمة والإيقاع والتشكيل إلى جانب الرصاصة. ففلسطين هويةٌ ستكونُ أقدر، بكلّ تأكيد، على الصُّمود، كأشجار الزيتون مع الأدب الرفيع والفنّ الذي يجعلها تتبوَّأ مكانها في "بانتيون" الخلود، وتُفلت من قبضة السقوط في العدم.  

خطيئة الدفاع - القسم الثقافي

■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- لو أتيحَ لي ذلك من جديدٍ، لما اخترتُ إلا ما يتوافقُ مع طباعي الانطوائيّة وشغفي بالعزلة والتأمّل والإيقاع الذي يمدُّ بيني وبين الأشياء جُسوراً تفتحُ لي بابَ الدخول في الهارمونيا الكونيّة. كنتُ سأختارُ، بكل تأكيدٍ، الإبداعَ الفنيَّ مُجدَّداً؛ استجابة لنداءاتٍ خفيةٍ تأتي من أقاصي الذات. ولكنَّ هذا لا ينفي أبداً شغفي الموازي أيضاً بالنِّضال، في مُستواه الفكري، باعتباري مثقّفاً معنيّاً بالإنسان والمعنى ومُجْمَل القيم التي تحفظ للعالم جدارته وللإنسان كرامته. وما كتابي الأخير عن غزّة إلا انتفاضة روحية وإنسانية ضدُّ أعطاب الحداثة الغربيّة التي وصلت إلى نهايتها مع العدميّة، وضدُّ بعض مثقّفي الميديا الفرنسيّين الذين اجتهدوا في تقديم عرائض الدفاع عن قايين القاتل وخانوا ميراث "النزعة الإنسانية"، التي عراها الشحوبُ وكشفت عن تحيُّزها ومركزيتها الغربية معهم. لقد كتبتُ، بمعنى ما، بيانَ اتهام لهذه الطائفة من الفلاسفة الذين سقطوا أخلاقياً وإنسانياً في وحل النزعة القبليَّة عندما انحازوا إلى السرديّة الصهيونية ومارسوا، بذلك، دور "كلاب الحراسة" للوضع الجائر القائم. لقد وجدتُني يا صديقي، بمعنى ما، مدفوعاً إلى أن أدبِّجَ "إني أتَّهم" على غرار إميل زولا، في طبعةٍ عربية، للردِّ على الذين آثروا الدفاعَ عن ظلمٍ تاريخيٍّ لَحِقَ بالفلسطينيين، ولم يجدوا حرجاً في قبول سرديّات الاحتلال، وحلفائه الغربيين والأميركيين، التي برَّرت المأساة والنكبة.

الإبداع حارس وجه الإنسان وبيت ذاكرته وكينونته


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا يختلفُ اثنان في كون أزمة العالم الأخلاقيّة اليوم تجدُ جذرها في افتضاح المُمارسات عندما نقارنها بالمبادئ. هذا ما يُسمُّونه في لغة السياسة والإعلام اليوم "الكيل بمكيالين". ولعلّ البعضَ يُرجع ذلك إلى انتصار المصلحة الضيِّقة والبراغماتيّة السياسيّة والنزوع إلى الهيمنة. وأنا شخصياً، لا أستغربُ هذا من حضارةٍ وجدت نماذجها العليا في "بروميثيوس" و"سيزيف" و"فاوست"؛ أعني في مجابهة الآلهة والتعالي، وتأكيد عبثية الوجود، وربط إرادة المعرفة بالقوة. هذه الحضارة لا تستطيعُ، اليوم، إخفاءَ أزماتها وهي تفيضُ على العالم حروباً وسيطرةً واستغلالاً وعِتقاً لوحش العدوانيّة المُتحرِّر من كلِّ القيم والمعياريات الأخلاقيّة والدينيّة. وربّما لن يختلفَ الكثيرون مع الكاتب الفرنسيِّ ألبير كامو وهو يلاحظ أنَّ انسحابَ السماء وعطلة الآلهة منذ بزوغ فجر الحداثة لم ينتج منه إلا بروز فاعِلَين رهيبينِ على مسرح العالم، هما: التاريخ والقوّة. ولكنَّني قد أضيفُ شيئاً، هنا، هو اعتقادي الشخصي أنَّ أهمَّ ما كان يصنعُ أقدارَ الإنسانيّة في القرون الأخيرة، فضلًا عن غريزة "إرادة القوة"، غريزة المُرابي الجشِع "شايلوك"، التي عرضها بشكل لافت وليم شكسبير في مسرحيته الشهيرة "تاجر البندقية". لا يُمكننا، في اعتقادي، فهمُ ما يجري في العالم ولا تأويله بمعزل عن هاتين الغريزتين. فالعالمُ ليس عقلاً. أو قل هو عقل يتوارى وراء الدوافع المظلمة وغير المُسَيطَر عليها، كما يطفو قاربٌ خشبيٌّ مُهترئٌ على سطح محيطٍ لجيٍّ يغشاه الموجُ المتدافع. هذه سيرةٌ موجزة للروح الغربيّة التي صنعت العالم الليبرالي الإمبريالي الحديث، وما زالت تصنعُ مصائره وأزماته. هل يمكنك أن ترى في ثناياها شيئاً يشي بمَقدم "الصباحات التي تغنّي" كما عبَّر ماركس ذات يوم؟

كتابي الأخير عن غزّة انتفاضة روحية ضدَّ أعطاب الحداثة الغربيّة

■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- نحنُ، في حقيقة الأمر، نتعلّمُ من غزّة وشعبها الصامد. لا نستطيع أن نقول لهم شيئاً أبداً. هم شهادةٌ حيَّةٌ على الكرامة والعزّة وكبرياء المظلوم الذي يعرفُ أنه على حقّ. هُم الشجر الحيُّ الضارب بجذوره في الأرض والتاريخ في زمن الأرض العربيّة اليباب. هم أصدقاءُ الموت بشرفٍ في زمن أُصيبت فيه الرغبة في الحياة بداء فقدان الشرف. ولعلّهم في مِحنتهم هذه والعالم العربي الإسلامي يقفُ، على مستوى الأنظمة، عاجزاً خانعاً، إن لم يكن متواطئاً أيضاً، يجعلونني أتذكّرُ ما قاله أبو الطيب المتنبي في قصيدةٍ شهيرة توجّه بها إلى الأمير سيف الدولة الحمداني جاء فيها: "وسِوَى الرُّوم خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أيِّ جانبيك تميلُ". هل تغيَّر شيءٌ يا صديقي؟ 


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان: ماذا تريدين من العالم؟ أجابت: "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- يحبُّ الأطفال عادةً حكايات ما قبل النوم. هذا في ظروف الحياة العادية. أمّا في حالة حرب الإبادة، فإنَّ الرغبة تزدادُ إلى حضنٍ يقي الأطفال هَول ما أفاقوا عليه وهم يشهدون، بهلع كبير، سرقة طفولتهم وفاجعةَ تحطّم وعود الآتي كلُعَبٍ هشةٍ أمامهم. فقد تمادى الاحتلال بدعم ومباركةٍ أميركيّة - أطلسيّة، في تجاوز كل الخطوط الحمراء، إرهاباً وقتلاً وتدميراً وتهجيراً ومحواً لكلِّ معالم الحياة في غَزّة المُحاصَرة الجائعة منذ سنوات طوال. وارتاع الخيال البشريُّ من شلله وعدم قدرته على تصوُّر الأطفال، المقتولين بوحشيةٍ بالغة، ملائكة صغاراً يعودون، أخيراً، إلى موطنهم السَّماوي الأصلي بعد الإقامة القصيرة في المنفى الأرضي. فماذا عساني أقول لدارين؟ إنني أخجل من مُجرَّد الجُرأة على ذلك صراحة. أقول لها: لكم الله عزيزتي دارين. لكم حكاياتُ أزمنةٍ جميلةٍ لم تولد بعد. انتهى. ستارٌ على خيباتنا التي لا تنتهي.



بطاقة

باحث وكاتب وشاعر جزائريّ يعمل أستاذاً للفلسفة. مهتمّ بقضايا الفكر العربيّ وأسئلة النهوض الحضاريّ والتنوير والحداثة من زاوية نقديّة/ تفكيكيّة. كما يهتمّ بمشكلات الفنّ والإبداع الأدبيّ. نشر عدداً من الأبحاث والدراسات الفكريّة والنقديّة في الجزائر والبلاد العربيّة. أصدر مؤخَّراً كتابه "خطيئة الدفاع عن قايين: مأساة غزّة... وتهافت الفلاسفة". من مؤلّفاته: "مقامُ التحوّل: هوامش حفرية على المتن الأدونيسي" (2009)، و"سِفرُ الخروج: اختراقُ السّبات الأيديولوجيّ في الثقافة العربيّة" (2010)، و"موتُ التاريخ: منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة" (2010)، و"قدّاسُ السقوط: كتاباتٌ ومراجعات على هامش الربيع العربيّ" (2012)، و"رمل اليقين: المُجتمع العربيّ وأسئلة الثورة والديمقراطيّة" (2015)، و"مفاتيح طروادة/ كتابات في أزمنة الهويّات المغلقة" (2016)، و"صندوق باندورا؛ هوامش على خطابات الهويّة والعنف" (2017)، و"في الحداثة والهويّة، محاورات" (2020).
 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون