تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم "ما زلنا بحاجة إلى ما هو أكثر تنظيماً ودرايةً بأُسُس العلوم وأعمدتها الرئيسية، رغم ما نشهده من مشاريع" يقول المُترجِم المصري في حديثه مع "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
لحكايتي مع الترجمة معنىً سياسيٌّ، فبعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 أغلب اهتماماتي الثقافية تغيَّرت من الاطّلاع على ما يعنيني بشكلٍ شخصيّ، إلى التفكير في الشأن العام والاهتمام بالفلسفة الحديثة والعلوم الاجتماعية. كانت أسئلتي هي "أسئلتنا" جميعاً كمنخرطين في الشأن العام؛ متعلّقة بالثورة والدولة والحزب والجماهير والهوية وغيرها، ومن ثمّ بدأتُ بالاطّلاع على مصادر لم أجد مثلها في اللغة العربية، وبعدها شرعتُ بترجمة ما أراه مُهمّاً في أنثروبولوجيا الدين والسياسة والفلسفة وغيرها. كانت البداية نابعة من اهتمام عامّ أكثر من أي شيء آخر.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
نشرتُ العديد من الدراسات والمقالات المُترجَمة، وترجمتُ كتاب حسين علي عجرمة عن "مركز نماء" (2017) والذي وصل للقائمة القصيرة لـ"جائزة رفاعة الطهطاوي" التي يمنحها "المركز القومي للترجمة" في مصر عام 2020 وعنوانه "مساءلة العلمانية: الدين والسياسة وحُكم القانون في مصر الحديثة". كما ترجمت كتاباً للمفكّر الهولندي مينو تير براك بعنوان "النازية كعقيدة حقد" عن "دار صفصافة" (2021). ومنذ إغلاقات كورونا العديدة وأنا أعمل على عدّة مشروعات متوازية بعضها يصدر منها قريباً: "المملكة والمجد" للفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبن، و"الدين والقانون في الدول الليبرالية" وهو عمل جماعي من تحرير: محمد جاهد بويان، و"طرق العالم" للمفكّر الأميركي الكبير ديفيد هارفي، وكتاب في "ظلال الغد" للمؤرّخ والفيلسوف الهولندي يوهان هويزينجا، وله أيضاً كتاب "مسار الحضارات". وغيرها، وهي نتيجة عمل السنوات القليلة الماضية وستصدر تباعاً.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
هناك العديد من العقبات التي يتشاركها المترجم مع القارئ، وأُخرى يتشاركها مع الناشر، وأُخرى يتشاركها مع المواطن عموماً. لكن ما يخصُّ المُترجِم من وجهة نظري هناك الكثير من العقبات، أوّلُها اعتبار دورِه مجرّد دورٍ "آلي" وأنا بالرغم من كوني باحثاً وكاتباً أرى أن الترجمة عملٌ إبداعيٌّ مستقلٌّ إن توفّرت شروطه، ومنها غياب فكرة التراكم ومشروعات الترجمة، وهذه سمةٌ عامةٌ في الترجمة غير الأدبية في العالم العربي، فهناك مشروعاتٌ شخصيةٌ أو كيفما اتّفق لخطط الناشرين. فتجد مثلاً مفكّراً أو فيلسوفاً كبيراً يُترجَم للعربية لأوّل مرّة، ثم تجدُ أن أكثر كتبِه هامشية هو الذي وقع اختيار الناشر عليه، وفي هذه اللحظة تقعُ على المترجِم مسؤوليةٌ مضاعفةٌ أمام القارئ وأمام ضميره؛ سيجبُ عليه أن يقدّم النصَّ سهلاً، وأن يضعه في سياقهِ الثقافي والفكري لقارئ ليست لديه معرفةٌ بسياقِ المؤلّف وسجالاته ومفاهيمه الرئيسية. وقلّ من يقومُ بهذه المهمّة أو يستطيع القيام بها. هناك العديد من العقبات لن يتسع لها المقام.
مهمّتنا أن ننقلَ النص بثقافته وطرقه وعجزه وكماله
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
محرِّرُ دار النشر وظيفةٌ تكادُ تكونُ غائبةً عن دور النشر العربية إلّا ما ندر، وأنا أعرف عدداً من الناشرين المثقّفين المُتقنين الذين يُولون أهميّة قصوى لهذا العمل، وعدُدهم يتزايدُ مع الوقت كلّما لاقى العملُ المُتقن إقبالًا وإشادة من المجتمع الثقافي. لكن لم يكن الأمر شائعاً، وكانت كافة مراحل الترجمة والتحرير والمراجعة والتدقيق ومراجعة المُسوّدات ومراجعة نسخة الطباعة تدورُ بين المترجِم نفسه وبين المُراجِع اللغوي، والحقّ أن وجود محرّر على علم ودراية بموضوعات العِلم كما أنّ علمه بالتقنيات الفنية واللغوية يُفيد العمل أيّما إفادة.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
في الحقيقة أعتبر نفسي محظوظاً في هذا الجانب، لأن أغلب من تعاونت معهم من الناشرين يرحّبون بترشيحاتي وطلباتي من ثقتهم وحسن ظنهم بي. وأنا، الحقيقة، شديد الانتقائية في مسألة بناء التعاون مع الناشرين فلا أتعاون إلا مع من أجد فيه التقدير والاهتمام اللّازِمَين لإخراج منتَجٍ عِلميٍّ مُتقن.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
غالبية اهتماماتي سياسية، وإن كنتُ لا أستطيع بالطبع أن أترجم كلّ ما أراه مهمّاً، فبعض العناوين التي تناقش موضوعات لها علاقة بشؤون سياسية أو دول بعينها تواجه بالرفض، والناشر معذور في ذلك، إما لأسباب سياسية أو لأسباب متعلّقة بالتسويق لأنه يستهدف أن يصل منتجه إلى الدول العربية كافّة.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
في الحقيقة أسعى جاهداً أن تكون علاقتي مع الكاتب مقتصرةً على النص، إذ هذا ما يقع بين يدي الناس كما هو في نهاية المطاف.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
المعيار عندي في أسلوب المترجم ألّا يطغى على أسلوب المؤلّف، فمهمّتنا أن ننقلَ النص بثقافته وطرقه وعجزه وكماله، وههنا، يمكن تكون الفصاحة العربية على سبيل المثال فخّاً، فالقارئ مثلاً يعجبُ أيّما إعجاب بالنص العربي الجميل الفصيح بين يديه، لكن استهداف الجمالية الزائدة غالبا ما تعطي النص ما ليس فيه، كأن تمنحه تأثراً بالتعبيرات المستقاة من الثقافة الشعرية أو النثرية العربية، أو حتى المعرفة بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وقد يعبّر الكاتبُ عن مسألةٍ بتعبيرٍ له حمولةٌ دلاليةٌ زائدةٌ تأتي من تأثُّره بحقلٍ أو ثقافةٍ معينةٍ، ما أراه صحيحاً ههنا أن أحاولَ وأسعى في نقل كافة الدلالات الممكنة. وأستهدف بذلك أن يستغني القارئ بالترجمة عن الأصل وعن المعرفة باللغة المصدر، وأن تفيد الترجمة القارئ والمتخصّص أيضاً، وإن لم أتمكّن من ذلك تمكنت بالحواشي والتعليقات.
أنا باحث في الأصل، واهتمامي بالترجمة نابع من اهتماماتي العِلمية، وأسعى أن يكون ذلك في صالح القارئ لا ضدّه، وأن أقدّم له ما أعرفُ في تأثيل الكلمات ونقلِ الاصطلاح وتيسير المُشكِل، ولا أُعادي ما نسمّيه اليوم بالعربية الفصحى الحديثة، وعادةً ما تكون عدتي الأولى في مواجهة المواضع النظرية والمعقّدة.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
أعتقد أن الجوائز ما زالت متأثّرة كثيرة بهيمنة الأدبِ على مفهوم الثقافة بشكلٍ عامّ، وأرى بشاراتٍ للخروج من هذا الضيق، وبالطبع هي ما زالت قليلة جداً ومُسيّسة في أغلبها.
ترسيخ معارف ترى واقعنا بأعيننا لا بأعين الدارس الغربي
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
هناك مشروعاتٌ مهمّةٌ بالفعل مثل "سلسلة ترجمان" الصادرة عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، و"المركز القومي للترجمة" في مصر، و"المنظمة العربية للترجمة" ببيروت، و"مؤسّسة نهوض" الكويتية، لكن ما زلنا في حاجة إلى ما هو أكثر تنظيماً ودرايةً بأُسس العلوم وأعمدتها الرئيسية، وهذا بالطبع فيما يخصّ الترجمة في الحقل غير الأدبي.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
أطبّقُ ما قاله، ذات يوم، الأستاذ يحيى حقّي إن الترجمة هي "السبيل" لتطوير العربية وقدرتها على إنتاج العلوم، فأسعى إلى محاكاة الأساليب والتعبيرات، وشرح السياق الثقافي وبيئته المفهومية، وأكثر ما يعنيني الاجتهاد في نقل الاصطلاح العِلمي بشكل لا يتجافى مع الاجتهادات العربية السابقة ولا يقع في أسرها في آن واحد.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
إلى الآن لا يوجد.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
أتمنّى أن نقدّم جميعاً جهوداً تعين الدارسين على إنتاج معارف خاصة منطلقة من عالمنا اللغوي والثقافي، وأن يكون هذا هو الهدف. الترجمة مهمة طبعاً في ذاتها كسبيل لمعرفة الثقافات الأُخرى وتاريخ الاجتهادات العِلمية السابقة، لكنّ الأمر مشروطٌ عندي باستخدام ما نقرأه ونقده وبالبناء عليه لترسيخ معارف ترى واقعنا بأعيننا لا بأعين الدارس الغربي. ولا أقول هنا بخصوصية ثقافية مقصورة علينا، لكن ليس هناك علم موضوعي أو حيادي، وإن كان ولا بد، فلتكن تحيُّزاتنا نحن الأَولى، فنحن وعالمنا اللغوي في علاقة جدلية، نشكّله ويشكّلنا، كفٌّ يرسم كفّاً والأخير يرسمه، لسنا مجرّد راصدين بل نحن الموضوع.
بطاقة
باحث ومترجم مصري من مواليد الجيزة عام 1986. من ترجماته: "مساءلة العلمانية: مساءلة العلمانية: الدين والسياسة وحُكم القانون في مصر الحديثة" (2017) لحسين علي عجرمة، و"النازية كعقيدة حقد" (2021) لـ مينو تير براك، إضافةً إلى دراستَين: "الفصل المفقود من الإمبراطورية" (2021) لـ سانتياغو كاسترو غوميز، و"ماركس والزمن والتاريخ" (2022) لـ جورج توملنسون، كما ساهم في تحرير وتأليف كتاب بعنوان "اختراع الأمم: الدولة القومية الحديثة في شرطها الاجتماعي" (2017).