في ظلّ جرائم الإبادة الإسرائيلية المستمرّة في فلسطين، والتي تمكن مقارنتها بأكبر فظائع القرن العشرين، بغطاء أميركي وأوروبي، بعد هزيمة إسرائيل العسكرية أمام شجاعة الإنسان الفلسطيني المقاوم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، ماذا يمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية؟ كيف تُصبح الثقافة أداة تحرُّر وتحرير للأرض والإنسان؟ وكيف يمكن أن تقاوم الثقافة العربية هيمنةَ المشروع الصهيوني على العالم العربي من خلال التطبيع والترسانة العسكرية والسيطرة على الإعلام والدعم الأميركي والغربي، وأي أدوات نمتلك؟
شاركنا في "العربي الجديد" هذه الأسئلة مع كتّاب ومثقّفين عرب، في محاولة تفكير جماعي بما يمكن للثقافة العربية أن تفعله الآن - وفي لحظات مفصلية قادمة - في طريقها إلى التحرّر والعدالة الاجتماعية وإنهاء الوقائع الاستعمارية والاستبدادية.
نجوان درويش / القدس المحتلة
أمل بوشارب: التأسيس لتيار يقاوم ثقافة التخاذل
قد تُغرينا هذه اللحظة المشحونة وجدانياً بالانجراف إلى خُطب عاطفية، يشعر بعدها المثقّف بأنه قد أدّى واجبه على أكمل وجه حيال القضية الفلسطينية، خصوصاً أمام المواقف المُتخاذلة التي أصبحت للأسف سمة عامة لمثقّفي العالَم العربي، الذين يعتقدون أنهم قد فهموا لعبة "العالمية"، والثمن الذي يتعيّن دفعه من أجل الدخول إلى "الدائرة المباركة" للساحة الثقافية الغربية.
الصمت أو المواقف الباردة التي اتّخذها الكثيرون إزاء حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، لا تُعبّر عن هزيمة داخلية ونزيف كرامةٍ مُزمن يعيشه هؤلاء فحسب، لكنّ أسوأ ما في هذه الحالة أنها قد تُصبح مُعدية وقابلة للتمرير للأجيال القادمة من الكُتّاب الشباب الذين قد ظهر على البعض منهم بالفعل علامات الاقتداء بالأسماء "اللامعة"، أو من يُعتقد أنهم فهموا أصول اللعبة قبلهم.
من هنا يأتي أولاً واجبنا بعدم الاكتفاء بالحدّ الأدنى من تسجيل المواقف، وهي عملية مهمّة، وإنما الأهم من ذلك هو التأسيس لتيّار يُقاوم ثقافة الانكسار التي يُحاول المثقّف المُتخاذل جعلها سمة الإنسان العربي في هذا العصر. الوقوف أمام هذا التوجّه لا بدّ أن يبدأ من خلال خطوات عملية أوّلها عودة الإعلام الثقافي العربي لِلَعب دوره الأساسي بنشر المعرفة بعيداً عن الاستسهال، بل الخوض في مفاهيم أساسية تتعلّق بالتوجّهات والمدارس الفكرية الحديثة في الغرب، والتي من شأنها إسقاط أوهام كبرى عن الساحة الثقافية الغربية، وديناميكيات تكريس الأسماء العربية في داخلها.
ديمقراطية غربية خادعة تستغلّ كتّاباً ومثقفين "ملوّنين"
"التوكينيزيم" أو استخدام الأقلّيات كأوراق لعب هو مثلاً مصطلح غائب تماماً عن أدبيات الإعلام الثقافي العربي، لدرجة عدم وجود ترجمة عربية معروفة له، هذا بالرغم من أنه مصطلح مُكرّس منذ عقود يعرفه المثقّفون الغربيّون جيداً، ويعني توظيف الكُتّاب والمثقّفين من ذوي الأسماء أو الأشكال "الإكزوتيكية" في المنظومة الثقافية الغربية، للإيحاء بتنوّع زائف يخضع عادة لشروط المنظومة الحاضنة. ومن نافل القول الإشارة إلى أن العملية بأسرها لا تُلقي أي اعتبار حقيقي للقيمة الأدبية للكاتب "الملوّن"، سوى استغلال خلفيته الثقافية للإيهام بديمقراطية خادعة هي نفسها الديمقراطية التي لا تأبه بقتل الفلسطينيين أو محو مدنهم عن بكرة أبيها اليوم.
وعليه لا بد أن يُدرك القارئ الشابّ، الطامح في أن يُصبح هو الآخر اسماً عالمياً يوماً ما، أن الكُتّاب العرب الذين يبصقون على ثقافتهم في الغرب من خلال كتابات ومواقف لا تُشبه أصالة شعوبهم، لا يَنظر لهم المثقّف الغربي على أنهم أنداد، بل ببساطة مجرد "توكنز". إدراك الكاتب العربي الشاب أن الأسماء التي تتنكّر لقضايا شعبها، لا يكنّ لها الغربي في نفسه سوى الاحتقار، وإن سُلّطت عليها الأضواء الخادعة، قد يجعله يكتفي بالكتابة لقُرّاء لغته الأم لا للترجمة من أجل الحصول على مجد عالمي زائف. لحظة الوعي الكبيرة هذه وحدها قد تطلق مشروعاً لأدب مقاومة غير متوقّع من شأنه أن يكتب صفحة عظيمة من صفحات الأدب العربي. تأخذنا هذه النقطة إلى إجراء عملي ثان يتعلّق بالترجمة، فمن المهمّ بمكان للمثقّف العربي، اليوم، أن لا يسمح لنفسه أن يتحوّل صوته إلى طلقة في صدر شعبه، والأمر يعني أن لا يقبل الكاتب أو الشاعر العربي سوى عروض ترجمة تخضع لشروطه، عدا عن ذلك فليعتذر عنها إن هو شعَر أن عمله قد يُوَظّف ضدّ ثقافته على نحو لا فكاك منه.
يجب ألا يتحوّل صوت المثقف إلى طلقة في صدر شعبه
وهو ما يجري للأسف بشكل شبه منهجي في الغرب اليوم، خصوصاً في ظلّ تزايد ظاهرة إرفاق المقدّمات النقدية بالكتب المترجمة، والتي قد يقول فيها المترجِم أو غيره ما يشاء، وهنا يحضرني كتاب "شرق – غرب" لفيديريكو رامبيني ("إيناودي"، 2020) الذي أشار فيه الكاتب الإيطالي إلى نهج يتّبعه المترجمون للآداب الشرقية في أوروبا، وصفه بأنه "شرح النصوص من خلال ليّ عنقها"، وهو أسلوب يعتمده المترجمون عادةً لفرض أيديولوجيتهم على النص الأصلي. أما مواصلة الادّعاء بأن ما نكتبه هو محض أدب ينضح بالجمال آملين في أن تقتصر الترجمة على إظهار الصنعة الفنية للكاتب، فهو كلام لا ينطوي على سذاجة فحسب، وإنما على عدم وعي باللحظة المفصلية التي يعيشها العالم العربي، قد يصل إلى حدّ التواطؤ على ثقافتنا في ظلّ ما نشهده الآن من عودة قوية للاستشراق من الباب الخلفي.
* روائية ومترجمة جزائرية مُقيمة في إيطاليا
حسن أكرم: حرب تدمير العراق في غزة
ما الذي علينا أن نفعله؟ سألت نفسي كثيراً، وأنا أتجرّع الألم أمام الصور التي تصلنا من غزة.
هذه الحرب هي حربي كإنسان عراقي، وتعنيني أكثر من أيّ أحد غيري، عدوّنا واحد، لقد قصفت الطائرات الأميركية العراق بقذائف النابالم، وبوزن يُعادل خمسة أضعاف وزن قنبلة نووية في التسعينيات، ثم عادت لتقصف ملجأ العامرية بصواريخ أرض أرض، وتترك 400 عراقي من النساء والأطفال يُسلقون بحرارة ماء الطوارئ التي وصلت إلى مرحلة الغليان، بفعل الصواريخ الحاقدة.
ولم تتوقّف عند ذلك، لقد استهدفت البنية التحتية العراقية، دمّرت الجسور والمستشفيات والمدارس، هذا ما يفعله العدو الآن في غزة، الحرب نفسها وبالوحشية نفسها تتحرّك تلك الطائرات لتستهدف روح الإنسان قبل جسده، لذا أنا لست متعاطفاً مع القضية الفلسطينية فحسب، بل أعدُّها قضيتي، هذه الأرض أرضي وأرض أهلي.
لذا فكّرت بأن دوري يتحدّد برواية الحكاية الفلسطينية على الناس، تذكير من نسي حقّ فلسطين بالأرض، وتنبيه الجيل الجديد بما يجدر عليهم فعله. كلّ يوم في عملي بالمكتبة أشتبك مع القرّاء حول القضية الفلسطينية، أُذكّرهم بحقّ إخوتنا هناك بالحرية على أرضهم، ونتداول الأخبار المبشّرة لحظة بلحظة.
لقد منحَنا الفلسطينيون الأمل بأن نحلم بالخلاص من هذا العدو الإجرامي. أنا أشدّ المتفائلين بمكاسب هذه الحرب، وقلبي وروحي مع إخوتي هناك. هذه معركة طويلة، تتطلّب صبراً وتضحيات، وبالفعل فإن "تحرير فلسطين كلّها قد بدأ".
* كاتب قصة ورواية من العراق
هشام البستاني: التخلّص الكامل من رواسب الاستعمار
يتلخّص ما يُمكن أن تقدّمه الثقافة العربية في أمرين؛ الأول: التخلّص الكامل من رواسب الاستعمار والمنظورات الاستعمارية عبر بناء فكر - ممارسة تحرريّة في مواجهته؛ جزء من جريمة المثقّفين أنهم آمنوا بـ"الحداثة"، وصدّقوا أكاذيب أوروبا الاستعماريّة البيضاء، وشرعتها "الإنسانية"، وخطابها عن "الديمقراطية". هذه الأمور جزء من عنصريّتها، تنطبق عليهم حصراً، لا على "الآخرين الهمَج"، نحن: "الحيوانات البشريّة". تجاهَلنا ماضيها الإجرامي، وحاضرها الإجرامي، وصدّقنا كلامها. "المجتمع الدولي" هو فكرة استعمارية معناها المجتمع الأوروبي الأبيض، والقانون الدولي هو قانون المستعمر الأوروبي الأبيض المُصاغ لصالحه، والمطبّق انتقائيّاً لتحقيق مصالحه. "المجتمع الدولي" هو ما نريد أن نتحرّر منه، لا أن نستنجد به.
لسنا بحاجة لإثبات إنسانيّتنا للمستعمِر الأوروبي. هو صاحب التاريخ الدموي في الأميركيتين وأفريقيا ومنطقتنا وآسيا، هو صاحب محاكم التفتيش والهولوكوست والقنابل النووية، هو والد العنصرية المُعادي للساميّة الممسوس برُهاب الإسلام، هو داعم إبادة غزّة، هو الذي عليه أن يثبت بشريته وإنسانيته لنا. "العالم المتحضر" هو خرافة يروّجها الأوروبي الهمجي القاتل المستعمِر عن نفسه ليُحَيْوِن المستعمَرين "الهمج"، ويبرّر استعمارهم واستغلالهم واستعبادهم وإبادتهم. حان وقت التخلّص بالكامل من رواسب الدعاية العنصرية الاستعمارية الأوروبية البيضاء التي نكرّرها ونثبّتها وندين أنفسنا بها دون وعي.
اجتثّت السلطات العربية النقد من قائمة مهمّات المثقّف
المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين ليس فلتة من فلتات الزمان، بل جزء من غزوة أوروبا البيضاء على العالم غير الأوروبي؛ استمرار لاستعمار الأميركتين وأستراليا وتطهيرها من شعوبها الأصلية، استمرار لجرائمهم في أفريقيا ومنطقتنا وآسيا، لاستعباد الشعوب، ونهب الثروات، والتقسيم. أوروبا وأميركا لا تتضامنان مع وتدعمان الاستعمار الاستيطاني في فلسطين من فراغ. أوروبا وأميركا هما الانطلاقة الأولى، والماضي القريب، والتأصيل الجذري، لما يمثله الاستعمار الاستيطاني، ولقيمه الإجرامية. وهم جميعاً امتدادٌ تاريخي لبعضهم، ولمنطق الاستعمار وعنصريته. معايير مزدوجة؟ تعاطف؟ المستوطنة الأوروبية الصهيونية هنا هي امتداد لتاريخ المستعمرين الأوروبيين الهمجي وإجرامهم وإباداتهم الكبرى، وهي امتداد لتاريخهم التدخّلي اللاحق: النابالم على فيتنام، والصواريخ على ملجأ العامرية، والنووي على هيروشيما وناغازاكي. هذا هو المعيار المُطبّق علينا ولا ازدواجيّة فيه.
حان وقت الاستيقاظ. لا يوجد "تقريب لوجهات النظر" مع الاستعمار الاستيطاني. لا توجد "تسوية" مع الاستعمار الاستيطاني. لا يوجد "بناء جسور" و"إيجاد حلول" مع الاستعمار الاستيطاني. لا يوجد "حيادية" مع الاستعمار الاستيطاني. أنت إمّا مع العدالة أو مع الظلم. الاستعمار الاستيطاني هو جريمة الحرب الأولى، هو العنف الأول المؤسّس، هو بداية العنصرية والقتل والتدمير والتطهير العرقي والتهجير. الاستعمار الاستيطاني هو التمثّل المادي الأول والنهائي للظلم والعنف، وعنف المظلوم التالي لعنف الظالم لا يحتاج إلى تبرير أو تسويغ أو تردّد. هل "يتساوى" العنف عند "الطرفين"؟ قطعاً لا، عنف المستعمِر المستوطن هو عنف القتل والإحلال، عنف أوّل، ومؤسّس، وظالم، وعنف المستعمَر هو عنف الحياة والبقاء، عنف رادّ، وضروريّ، وعادل. فليصمت ذاك الذي يتحدّث عن "التوازن" و"المساواة بين الطرفين". دورنا الثقافي - الفكريّ - الإبداعي، اليوم، هو أن نُعيد قراءة علاقتنا مع الاستعمار والتجربة الاستعماريّة بالكامل، ونقدّم مقاربة تحرريّة منها.
لا يوجد "تقريب لوجهات النظر" مع الاستعمار الاستيطاني
الثاني: هو الموقف من السلطات الحاكمة في المنطقة العربية، وأغلبها متواطئ، لا بل شريك، في تمويل اقتصاد الحرب الصهيوني، وتمويل العدوان على غزة، وإسناد المشروع الاستعماري الاستيطاني. خذ مثلًا حكومة بلدي، الأردن، إذ تموّل المستعمِر الصهيوني وجرائمه بعشرة مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأردنيّين غصباً عنهم عبر اتفاقية لاستيراد الغاز. مصر لديها اتفاقية مُماثلة بخمسة عشر مليار دولار، دول عربيّة أُخرى تساهم في اقتصاد الصهاينة أو وقّعت اتفاقيات أمنيّة وعسكريّة معهم. هؤلاء جزء من الجريمة، وأكثرية الكتّاب العرب، اللاهثين بسفالة خلف الجوائز المالية والبهرجات الإعلامية والاعتراف والشهرة، صاروا شهود زور على سلطات يفترض أن يفضحوها ويواجهوها.
نجحت السلطات العربية في اجتثاث "النقد" من قائمة مهمّات وأدوات المثقّف، وبالتالي، حان الوقت اليوم لفضح هؤلاء المثقفين، عبيد المال والشهرة والاعتراف، هؤلاء جزء من كارثة الانحطاط الفكري - الثقافي الذي نعيش، وفضح السلطات المتواطئة. اليوم نحن بحاجة لما أسمّيه: "المُفكّر الممارس"، المنخرط مع مجتمعه في إنتاج التغيير باعتباره فعلاً - فكراً إبداعيّاً مستمرّاً، يُعيد موضعة الفكر داخل ديناميكيّة الحركة والتاريخ اللذين لا يتوقّفان. المُفكّر الممارس هو مفكّر مجتمعيّ، جماعيّ، تاريخيّ - ماديّ (يشتبك مع الواقع ويريد تغييره)، موضوعيّ (ينطلق من المصلحة الاجتماعيّة والواقع)، تثويريّ، تحريضيّ، يستدعي شكلاً جدليّاً، نقديّاً، تخليقيّاً للمعرفة، هي حصيلة عمل ذهنيّ في الأفكار وفعليّ في الواقع،ِ أفكاره صيرورةٌ متحرّكةٌ تشتبك مع الواقع، فهو يفعل في الواقع إذ يفكّر فيه، ويفعل الواقع في أفكاره إذ يشتبك معه، نقديٌّ دائماً، يُسائل القبول العامّ، يتحرّك بلا قيود، السّلطة عقبةٌ في طريق مشروعه، يشتبك مع السّلطة وينقدها، يهتمّ بفتح المساحات العامّة، ويريد تحقيق تغييرٍ فوقيّ (في السلطة) انطلاقاً من ثورةٍ تحتيّة. هذا ما قد يحقّق لنا نقلة ثقافية استراتيجية تحرريّة في المستقبل.
* كاتب من الأردن
روني بو سابا: ثقافة المقاومة.. السياقات والوسائل
التفكير بالثقافة في أيّ وقت، ولا سيّما وقت القصف والدمار وتجلّي الهمجية بأبشع صورها هو شكل من أشكال المقاومة المُستدامة. الثقافة من حيث كونها نتاجا بشريّا ترتقي برُقيّ جميع المشاركين في إنتاجها، وتفقُر حين يتراجع الاهتمام بإغنائها. من هنا، كلّ فرد مسؤول عن إغناء أو إفقار النتاج الثقافيّ.
إنّ الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيونيّ مرّة جديدة بغطاء أو صمت - لا فرق - عربيَّين ودوليَّين، يُحتِّم على كلّ إنسان أن يُفكّر في ما يُمكن أن يفعله خدمة لفلسطين. كي أكون واضحاً، ما تُعانيه فلسطين، برأيي، هو نوع من تجلّيات الظلم بين الناس. هي أكثر مَن يُعاني منه، ولكنّها ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة، إذا لم يفكّر الناس بالارتقاء نحو العدالة ومنع سرطان الظلم من التفشّي أكثر في جسم البشريّة.
في هذا الإطار، وانطلاقاً من القضيّة الفلسطينيّة، أعتقد أنّ على المنخرطين في الشأن الثقافيّ أن يُراجعوا دورهم وتأثيرهم كلٌّ في بيئته، إذ إنّهم أوّل المعنيّين بنشر الثقافة وإشراك ناس أكثر بإغنائها. أقصد بالبيئة السياقَ المكانيّ والاجتماعيّ والثقافيّ وسوى ذلك من السياقات. فخطاب الإنسان العربيّ في بلاد الانتشار لا بدّ أن يختلف عن خطابه في العالَم العربي. وخطابه في البلاد ذات الأنظمة الديكتاتوريّة يجدر به أن يُغاير خطاب مَن يعيش في ظلّ هامش من الديمقراطية، وهلمّ جرّاً.
ما سبق يعني أنّ على كلّ منخرط في الشأن الثقافي أن يفهم إمكاناته ويُنمّيها ويحدّد البيئة التي سيجسّد فيها مشروعه كي لا يبقى "ظاهرة صوتيّة". فرغم أنّ القضيّة واحدة وثابتة حتّى بلوغ أهدافها وإنصاف فلسطين، إلا أنّ أدوات تحقيقها مُتبدّلة لتُواكِب السياقات وتَبدُّلِها.
المقاومة من غير ثقافة تؤول حتماً إلى التطرّف وتفشل
لا يختلف اثنان على أنّ وظيفة الثقافة قبل كلّ شيء تنمية الوعي والفكر النقديّ، وهذا لا يتحقّق بلا استقلال تامّ عن كلّ أنواع السلطات. نقد السلطة بشكلها التقليديّ لم يعُد يكفي اليوم. فقد أوجدت الأخيرة أقنعة عديدة تختبئ خلفها؛ ولم تعد تخاطب الناس بوسائل تقليديّة إذ بات بإمكانها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها العديدة. كلّ هذا يستدعي موقفاً نقديّاً واضحاً وتسخيراً مفيداً لكلّ وسيلة، حتى لا يسود الابتذال ولا تنحصر الثقافة بفئة قليلة منغلقة على ذاتها.
السياقات الثقافيّة، برأيي، لا تقلّ أهمّيّة عن الوسائل؛ ففهم السياقات ضروريّ من أجل تحديد الخطاب الذي يجب أن يصاغ به المشروع الثقافيّ. القضيّة الفلسطينيّة في العالم العربيّ مثلاً تستطيع أن تعبّر عن نفسها حتّى في أشدّ الأنظمة العربيّة قمعاً أكثر ممّا تستطيع ذلك في العالَم الغربيّ. هناك أُطُر تُضيِّق من الحقّ في إيصال المعلومات التي لا توافق عليها حكومات الغرب تحت ذرائع مختلفة. لذلك يجب إدراك هذه الأُطُر جيّداً لمعرفة هوامشها والتحرّك وفقها أوّلاً لتجنُّب القمع الكلّيّ، وثانياً منعاً لِحَرْف الأنظار عن القضيّة عبر اتّهام المدافعين عنها بالسلوك الاستفزازيّ أو التطرّف وسوى ذلك.
معرفة السياق الثقافيّ الغربيّ أمر لا بدّ منه، إذ لا يخفى على أحد أنّ العالم الغربيّ، لا حكّاماً فقط بل شعوباً أيضاً، يزداد انحيازاً إلى العدوّ الصهيونيّ. كيف يُمكن تغيير ذلك من غير وعينا لذاتنا وإبراز غنى الحضارة العربيّة وإسهاماتها على كلّ صعيد، لا سيّما في عصرنا هذا؟ من أفضل السبل إلى هذا هو دعم حركة الترجمة إلى لغات العالم الغربيّ وزيادة الكتابة بها وتفعيل الدبلوماسيّة الناعمة عموماً.
بصرف النظر عن الاقتراحات العَمليّة، هناك مُسلَّمات يحسن على من يعملون في المجال الثقافيّ الالتزام بها، ومنها:
- فَهْمُ البُعد السياسيّ البَحت لقضيّتنا يقود إلى نبذ الخطاب الدينيّ لأنّ لا علاقة له بها. فالاستعمار والاحتلال والإجرام في كلّ بقاع الأرض كلّها أفعال سياسيّة لا تمتّ لأيّ دين بصلة، وإن حاول البعض إعطاء ذريعة دينيّة لإجرامه.
- العمل على تعزيز التعايُش أينما كان، لأنّه يُحصّن المجتمعات من حَرْف الأنظار عن السياسة، واستغلال الأديان وسيلة وذريعة لمآرب أُخرى.
- إدراك ترابط الثقافة والمقاومة. فالمقاومة بلا ثقافة بدل أن تنجح ستجنح إلى التطرُّف وتفشل. والثقافة بلا مقاومة لاحتلال العقل والأرض على حدّ سواء تفقد بوصلتها. فالمقاومة فعلٌ واعٍ ومُدرِك، أمّا التطرّف فانفعال لا يؤدّي سوى إلى دوّامة من القتل والدمار.
الانحياز الإعلاميّ الغربيّ وانتشار هذا الإعلام في بلادنا حتّى، وتراجع شعوب العالم عن دعم قضيّتنا دليل على تقصير أهل الثقافة في رسالتهم. عسى أن تشكّل هذه الجولة من الإجرام الصهيونيّ بحقّ فلسطين صدمة تزيد من اهتمام كلّ عربيّ، في بلاده أو في بلاد الانتشار، بنشر ثقافته والتعريف بها. فحضارتنا لم تقم إلا على التفاعل الخلّاق بين الشعوب، وهذا أكثر ما يحتاجه عالمنا، اليوم، لتسود فيه العدالة والإنصاف لفلسطين وكلّ مظلوم.
* مترجم لبناني وأستاذ في "جامعة أثينا"
عبد الرحمن الإبراهيم: أهمية استدعاء التاريخ
فلسطين قضية العرب والمسلمين منذ اجتاحتها العصابات الصهيونية عام 1948، وسيطرت على أجزاء من أرضها. منذ ذلك الحين، وقبله أيضاً، كان للشعوب العربية دورٌ في مقاومة هذا الكيان المُحتلّ في نواحٍ عديدة: عسكرية وثقافية ورياضية وتاريخية. وبما أنّ الثقافة في أحد تعريفاتها "هي المعرفة التي تُؤخَذ عن طريق الإخبار والتلقّي والاستنباط"، فالتاريخ جزء أصيل من هذه الثقافة التي يجب أن تُستخدم كأداة للتحرُّر.
من يُتابع التغطيات عن غزّة وعموم فلسطين في هذه الأيام، يجد أنّ التاريخ يُغطّي جزءاً كبيراً من هذه الأحداث خصوصاً في العالَم الغربي. فالنقاشات الدائرة بين الفريقين حول "أحقّية الصهاينة" بأرض فلسطين من واجب المثقّف العربي نقْضُها، وهو دور أصيل للمثقّف. فالسياقات السياسية، اليوم، تغيّرت عمّا كانت عليه قبل عشرين سنة، فصرنا نجد دولاً عربية وخليجية نحَت منحى التطبيع، وصار انتقاد الكيان الصهيوني غير مرحّب به في هذه الدول إن لم يكن مُجرّماً.
مثل هذه النقاشات التاريخية حول الحقّ التاريخي للفلسطينيّين والعرب في أرضهم مُدعّمة بالأدلّة والوثائق والمنطق، ومع ذلك فإن إبراز وجهات النظر المؤيّدة لهذا الحقّ، من قِبل مؤرّخين مُنصِفين، مثل المُؤرِّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، المعروف بنصرة القضية الفلسطينية أمر محمود. يذكر بابيه في مقابلة له مع "موقع الجزيرة" عندما تم سؤاله عمّا إذا ترك الفلسطينيون أرضهم طواعية عام 1948، كما تُروّج ماكينة الإعلام الغربية، فأجاب: "لا، ليس صحيحاً، لكنهم أصبحوا لاجئين وضحايا لعملية تطهير عرقي أعدّتها القيادة الصهيونية في أوائل ذلك العام، ونُفّذت لمدّة تسعة أشهر حتى نهايته. حينها، طُرد أكثر من نصف سكّان فلسطين، ودمّرت نصف قراها ومعظم مدنها".
قضية التطهير العرقي، وإن كانت واضحة لدى العالَم العربي، إلّا أنها بحاجة لمزيد من تسليط الضوء عليها في العالَم الغربي، إذ إن القرار في النهاية يُصنع هناك وليس هنا. ما يقوم به النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزة، هو جزء من المقاومة وأداة مهمّة من أدوات مقاومة الاحتلال.
على الصعيد الداخلي في الدول العربية، من أفضل أدوات المقاومة الثقافية تذكير الأجيال الحديثة بتاريخ ونضال آبائهم وأجدادهم في مقاومة الكيان الصهيوني منذ نشأته. في الكويت على سبيل المثال، بدأ الدعم الشعبي للمقاومة منذ 1936، على الرغم من أن البلاد لم تكن قد استقلّت بعد، في تلك الفترة، لكن كان هناك دعم شعبي من خلال التبرّعات لفلسطين. واستمرّ هذا الدعم على امتداد العقود الماضية وصولاً إلى اليوم. إن استدعاء التاريخ، اليوم، وتوعية الأجيال الحديثة مهمّان جدّاً، خصوصاً أن القيادة السياسية في الكويت، لا تزال داعمة لفلسطين والقضية الفلسطينية. ومن هنا فإن التركيز على تاريخ المقاومة وتاريخ الدعم الكويتي للمقاومة، يُعزّز مركزية القضية الفلسطينية في الذهنية الكويتية.
من المُلاحظ وجود أصوات خافتة اليوم تُطالب بعدم دعم القضية الفلسطينية، بسبب موقف منظّمة التحرير عام 1990 من الغزو العراقي. هذه الأصوات في حال تركها وعدم مقاومة مثل هذه الادّعاءات الباطلة سيكون لها صوتٌ أعلى في المستقبل، لأنها اليوم تربط مثل هذه الحجج الواهية بالإعلام الغربي وطريقة تعاطيه مع الموضوع.
قطعاً إن استدعاء التاريخ وإبراز دور الشعوب في نصرة القضية الفلسطينية، من الجوانب الثقافية التي تُعزّز إيمان الأجيال بهذه القضية الحقّة. كما أن الاستمرار في توعية الشعوب بأن ما حصل في نكبة 1948 كان إبادة جماعية، وأنّ الحقوق لا تتساقط بالتقادم، من واجبات المثقّف العربي. كما أنّ الضغط الشعبي على الحكومات في تجريم التعامل مع الكيان الصهيوني، من الخطوات العمَلية الفاعلة للمثقّف التي يُمكن من خلالها نصرة القضية والمقاومة.
أخيراً، وفي الكويت على وجه الخصوص، هناك دور مهمّ للمثقّفين والأكاديميّين لاستغلال هذه الفرصة والضغط على نوّاب "مجلس الأمة" الكويتي لإصدار قانون يُجرّم التعاطُف مع الكيان الصهيوني، ويمنع الحكومة من التطبيع في المستقبل، لأنّ مثل هذا الموقف يُعتبر من الطُّرق الفاعلة في مقاومة الكيان المحتلّ.
* باحث وأكاديمي من الكويت