عادة ما ترتبط صورة فلسطين قبل نكبة عام 1948، وما عقبها من تدمير إسرائيلي ممنهج للمكان وتهجير سكّانه منه، بالمخيال الريفي أوّلاً، والذي يستحضر عناصر شتّى من حياة الفلاحين حصراً. وقد تكرّست هذه الصورة من خلال أعمال فنّية على صعيد التشكيل والإنتاجات البصرية وحتى المرويات السردية. في المقابل، تبدو المدينة مغيّبة ضمن هذه السردية، ومعها تغيب، أيضاً، جملة من المفاهيم الأكثر حداثة، والمرتبطة بنمط حياة حضري وعصريّ.
المقابلة بين هاتين الصورتين، وتفصيل العوامل السياسية والاجتماعية التي قدّمت الصورة الأولى؛ أي فلسطين الريفية، وأزاحت الثانية وأقصتها عن الحضور في المروية التاريخية، هي الموضوع الذي يُناقشه كتاب الباحثة الفلسطينية منار حسن "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"، الصادر حديثاً عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، والذي أُشهِر الثلاثاء الماضي في "مركز خليل السكاكيني" برام الله، من خلال ندوة اشترك فيها كلٌّ من الباحث سليم تماري، والباحثة همّت الزعبي، التي قدّمت عرضاً مفصّلاً للكتاب، إلى جانب المؤلّفة.
النكبة كحالة انقطاع
في بداية تقديمه للندوة، أشار تماري إلى لوحة للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل (1935) بعنوان "يافا عروس البحر"، والتي اتخذ الكتاب منها غلافاً، ليعتبرها نموذجاً عن الحضور المدني المختلِف، وعملاً يمثّل صورة عن فلسطين المدينة لا القرية، حيث البحر والاختلاط وضجيج الحياة اليومية، ومظاهر العمل التي تدلُّ على أنّ نوعاً من "الاستقلالية" بات يحكم طبيعة الناس، والذي هو، بمعنى آخر، "شرط من شروط التمدّن". وهذا عكس ما ذهب إليه التشكيلي إسماعيل شمّوط (وهو زوج الأكحل)، الذي فضّل مقاربة أوّلية في أعماله تنطلق -حسب تماري- من واقع حال الريف الفلسطيني ببيّاراته وأشجاره وفلّاحيه.
يدلّ العمل على غنى الحياة المدنية الفلسطينية وتنوّعها
كما أشار تماري إلى ما أكّده الكتاب من أنّ 40 بالمئة من سكّان البلاد عام 1948 كانوا حضريين؛ أي سكّان مُدن.
لكنّ السؤال الأكثر إلحاحاً، بعد هذا العرض، هو: ما دور التهجير والسياسات الإجرامية التي أدّت إلى "خلق الكيان الإسرائيلي" ذلك العام، في طمس وتغييب هذه الصورة المدنيّة الفلسطينية؟ والجواب في كتاب منار حسن، الذي يعطي أمثلة عن الحياة المدنية التي كانت تعجّ بها مدن، مثل حيفا ويافا والقدس والرملة وغيرها، وعن النحو الذي شكّلت من خلاله النكبة حالة انقطاع في تطوّرها، وأعاقتِ الازدهار والنمو فيها، بفعل عمليات الاحتلال.
الحيّز المكاني والموقع الجندري
بعدها تحدّثت حسن عن كتابها، معتمدة على موقف نسوي يُقاطع بين قراءة الحيّز المكاني (المدينة) وبين الموقع الجندري للنساء وفاعليّتهنّ الوظيفية في ذلك الحيز، وبالتالي وضع اليد على الأدلة المدنية من خلال نشاط النساء، لأنّ هذا الأخير وحده ما يكشف معيارياً عن مقدار التمدّن، حسب حسن. وهذا المنهج يعود في أوّليات اشتغاله إلى الفرنسي ميشال فوكو (1926 - 1984)، كما يُشير تماري.
أربعون بالمئة من سكان البلاد كانوا من سكان المدن عشية النكبة
في سعيها إلى رسم "فسيفساء المدن المنسية"، تعدّدت مصادر الباحثة، فمن قصاصات الصحف (التي هي في الوقت ذاته دليل على تقدّم الحياة الحضرية)، إلى الشهادات الحيّة لنساء فلسطينيات لاجئات في الأردن وسورية ولبنان، وصولاً إلى المرويات الشفوية التي تبرز مصدراً أوّلياً للكتاب، في ظلّ غياب أرشيف فلسطيني، وهيمنة "الأرشيف الإسرائيلي" كمرجعية قائمة أساساً على النهب والسطو على الوثائق الفلسطينية، التي عوملت معاملة الأراضي والممتلكات المُصادَرة.
كذلك أشارت المؤلّفة إلى تعدّدية الحياة المدنية في فلسطين قبل 1948، وغنى عناصرها من المسارح ودور السينما والصحف والجمعيات النسوية برائداتها كفكرية صدقي وساذج نصّار وغيرهنّ، وصولاً إلى الانفتاح على المحيط العربي، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبته مُدن الجوار العربي، في تمتين عوامل التمدّن؛ مقابل حالة العزلة والانقطاع التي فرضها الاحتلال وسياساته بعد 1948.
عملية تصويب للتاريخ
بدورها قدّمت الباحثة همّت الزعبي قراءتها للكتاب، ورأت فيه "عملية تصويب للتاريخ" انطلاقاً من رؤية "نسوية نقدية"؛ أي إنه في الوقت الذي تقوم فيه منار حسن بمسح الحيّز المديني وعلاقة حضور المرأة فيه، فإنها لا تغفل عن النظر إليه كمسرح لصراعات اجتماعية أُخرى.
ولئِن كان الوعي المدني متحصّلاً عند الطبقات الوسطى والعُليا التي تمكّنت فيها النساء من كتابة المقالات في صحف فلسطينية وعربية حول حرية المرأة، متناولات مواضيع كالحجاب والزواج والميراث، إلّا أنّ حسن لا تغفل -حسب الزعبي- عن الإشارة إلى دور النساء من الطبقات الدنيا، وقدرتهنّ على التفاعُل مع حيّزات المدينة وفضاءاتها، مُحقّقاتٍ شيئاً من الاستقلال المادّي لأنفسهنَّ، وكلّ هذا جاءت النكبة كممارسة استعمارية لتقطع معه.
كما أشارت الزعبي إلى أنّ الكتاب هو "وثيقة دفاع" عن النموذج المدني الفلسطيني المُغيّب، والوعي بهذا النموذج هو "تجربة حسّية" لن تغيب ولا يمكن إبادتُها مِن وجدان مَن عاشوها، وهنا يأتي دور الأرشيف في جمع ورصد هذه التجارب من الذاكرة الجمعية العامة، وتحويلها لأدلّة حقيقية وملموسة.
إلى جانب مداخلات الباحثين، تضمّنت الندوة أيضاً، نقاشاً وأسئلة تفاعَل من خلالها الحاضرون مع موضوع الكتاب وما جاء فيه.