في عمله الجديد اللافت "مدينة السلام" الذي يُعرض حالياً على منصّات "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" الإلكترونية، يتأمّل الفنان الفلسطيني منذر جوابرة (1976)، سيرة مدينته بيت لحم في لحظة مفصلية: حين مسّها الوباء قبل نحو عامين؛ حيث يحاكي الفنّ بنية المكان والاقتصاد والبشر والدولة.
ضمن مشروع "في ذكرى الغد"، يندرج العمل الذي نُفّذ بإشراف الفوتوغرافية الفلسطينية أحلام شبلي، ويتضمّن أربع صور سعى جوابرة من خلالها إلى تمثيل الواقع الوبائي، والمقارنة بينه وبين الواقع السياسي في المدينة، حيث يرى أنه لم يعد هناك فرق "بين الوباء وبين المحتلّ الذي يشكّل عدوّاً علينا مواجهته والانتصار عليه".
يقارن الفنان الواقع الوبائي بالواقع السياسي الاحتلالي
يعود الفنان إلى مشهد بيت لحم، أولى المدن التي انتشر فيها كوفيد - 19 في فلسطين وعاشت بين الموت والحياة؛ موت يفتك بشبابها وشيوخها وحياة تنهزم أمامه في مدينة تعاني من الحصار والاحتلال وجدار الفصل العنصري، حيث انطلق في مسار بحثي قائم على التوثيق تبعاً للتطوّرات الوبائية، وتأثيرها على المدينة.
مشهد من ذاكرة فلسطينية
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول جوابرة: "حالة الوباء لم تشكّل فارقاً كبيراً في بنية المكان وهويّته؛ لقد كان المشهد مألوفاً وما زال في هواء المدينة خلال بعض الأوقات، التي تشير غالباً إلى حدث سياسي متأثّر بهوية الاحتلال كفكر استعماري ومشروع تهويد للمكان والبشر والثقافة. مشاهد خلوّ المدينة من الحركة تعني في العقل الباطن للفلسطيني إمّا حالة إضراب أو منع تجوال أو اقتحاماً أو حصاراً... هو مشهد متكرّر، لم ينته يوماً من الذاكرة الفلسطينية".
ويضيف: "في الوقت الذي شلّ فيه الوباء حركة الفلسطينيين، كان الأمر إلى حدّ كبير مثل مزحة غير متوقّعة، وكأن الطبيعة ترغب في إعادة تشكيل الوعي وربطه بسياقات ممتدّة نحو تجربة كونية فرض عليها حصار شامل"، مشيراً إلى أن "مدينة بيت لحم، وبناءً على تشكُّلها الديني بدايةً، والتاريخي ثانياً، هي مدينةٌ تتّصف علاقتها بالعالم بكونها مدينة مُحبّة للسلام، وإليها يسير الحجّاج سنوياً من كلّ بقاع العالم، كمهد المسيح ولِما تنشره من مَحبّة. أمام هذه القوّة أصبحت المدينة لا معنى لها، واشتبكت السياسة بالصحّة كوباء، ولم يعد حينها من معنى للتاريخ والدين والمكان، فالكلّ يبحث عن الخلاص. شعرتُ أن المدينة تتساقط شيئًا فشيئاً، ولكنّ ما يخفّف وطأة هذا الشعور هو ربطه بالسياق السياسي، والاعتقاد بأنها فترة وسيعود كلّ شيء بعدها إلى ما كان عليه".
بدأ المشروع وبدعم من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، عبر توثيق الحالة الوبائية في فلسطين، واختار جوابرة مدينة بيت لحم كمكان يعيش فيه وينتمي اليه، وبدأ رصد الحالة الوبائية في المدينة لأكثر من ستّة أشهر، من خلال مراقبة حركة الناس، وتوثيق المتغيّرات عبر الصور الفوتوغرافية. فتارةً تكون المدينة خاوية، ويُمنع الخروج منها إلّا بتصريح، وتارةً تُفتح أبوابها على استحياء وتردُّد، وتارة تُفتح محلّات دون سواها، ما عكس فلسفة المدينة التجارية وتواضعها الاجتماعي، وغياب مقوّمات الصمود الداخلي في حال حدوث إغلاق تامّ، فلا زراعة فيها ولا صناعة ولا إنتاج.
ويتابع: "كان شعوراً بتردُّد المدينة نفسها بين استيعاب الحالة ورفضها، ورصد انتشار الوباء ومنع الحركة نهائياً، أو تراجعها والسير بحذر. لقد شكّلت هذه الفترة مرحلة خطيرة في بنية المكان/ الاقتصاد/ البشر/ الدولة، فلم يكن هناك شكل واضح لمفهوم المدينة وقدرتها على الصمود في مواجهة الجائحة، وفشلت السلطة، في حال وجودها، كاستراتيجية تستطيع أن تدعم صمود الناس تحت هذه الظروف، ما خلق شراكة مجتمعية استطاعت أن تدعم بعضها البعض، وهذه الشراكة هي أكثر ما خفّف عن المدينة وجعها، علماً بأنها أُولى الأماكن التي انتشر فيها الوباء في فلسطين". "بالرغم من اعتماد المدينة على الحركة السياحية وتأهيل المدينة لاستقبال السياح، إلّا أنها تُركت وحيدة وقتَ الجائحة، وبذلك يمكن فهم هوية المكان واغترابه عن نفسه، إذ لم تكن المدينة بمؤسّساتها مستعدّة أو منتمية للمكان نفسه"، يصف جوابرة الحال.
في انتظار قدرنا
وحول التقنيات المستخدمة، يشير إلى أنه "بناءً على الصور التوثيقية ومشروع البحث الفوتوغرافي، كان إنتاج الصور النهائية كمشروع فنيّ (ديجيتال آرت)، وكان هناك تدخّل في شكل الصورة من خلال التركيب والأداء الذي تحوّل في النهاية لصورة تُمثّل كلّ هذه التناقضات في عمل واحد".
في الربط بين الواقع السياسي والوبائي، وفي لحظات ساخرة ومؤلمة، يقول جوابرة: "شاهدنا استخدام الناس للكمامات واللثام، وبالرغم من مبرّرات استخدامها أحياناً، إلّا أنها تشكّل خطورةً خاصّة بفلسطين، فاللثام كان يعرّضك إلى الخطر والقتل المباشر من الاحتلال، وذلك للعلاقة بين اللثام والمقاومة، ومن الخطِر جدّاً أن تستخدمه وتخرج من المدينة أو تمرّ على حاجز للاحتلال. ولكن في هذه الفترة، أصبح الأمر مقبولاً نوعاً ما، ويمكن استخدام أيّ شكل من أشكال اللثام، وكانت هناك هدنة على وقف القتل اليومي للشعب الفلسطيني، وأصبح الموت تحت الرصاص موقوفاً بشكل مؤقّت حتى نهاية الوباء، وهذا فتح شهيّة التخيّل: كيف يكون الموت لمصابٍ بالوباء قُتل بالرصاص في الوقت نفسه".
عاد العالم لحياته وما زلنا في فلسطين على نفس الحافّة
ويتساءل هنا: "كيف سيكون شكل الموت لمعتقَلٍ داخل أقبية السجون؟"، ويزيد: "الموتى وحيدون، ويذهبون على شاكلتهم؛ حقيقة لا يمكن تزويرها. الموت ليس من أثر الوباء فقط، بل هو محمّل بكلّ أشكال الحصار والقهر والتعدّي والاعتقال. هي مقاربة لشكل الموت في فلسطين الذي يختلف عن بقية المدن في العالم. فالموت هنا استمرارٌ للحياة، وصورة ثابتة لِما كان وسيكون. وها نحن اليوم نرى نفس المشهد، وقد عاد العالم لحياته، في حين أننا ما زلنا واقفين على نفس الحافة في انتظار قدرنا؛ صامدين وثائرين".
بطاقة
تشكيلي فلسطيني من مواليد "مخيّم العرّوب" عام 1976 في الضفة الغربية ويعيش في بيت لحم. درس الفنون الجميلة، وشارك في العديد من المعارض الفردية والجماعية، وعرض أيضاً في ألمانيا والمملكة المتحدة والنرويج واليابان وغيرها. أسّس جوابرة "مرسم 301" في بيت لحم عام 2013، وكان أحد مؤسّسي "غاليري المحطة" عام 2008 في رام الله. درّس في العديد من الجامعات الفلسطينية حتى عام 2012، ليتفرّغ بعدها للإنتاج الفني.