في مقال له نُشر بعد سقوط بغداد بعامين، أشار أستاذ الرياضيات والباحث والمناضل السياسي منذر نعمان الأعظمي (1942 – 2022)، الذي رحل في تونس منتصف الشهر الماضي، إلى وهم الديمقراطية التي سوّقتها الولايات المتحدة وأمراء الحرب العراقيون المنخرطون في العملية السياسية، في بلد تتدهور الحياة المعيشية لمواطنيه، وتتواصل انتهاكات حقوقهم الأساسية.
اتّخذ الراحل موقفاً حاسماً ضدّ الاحتلال الأميركي، وهو المنفيّ لسنوات الطويلة بسبب معارضته لنظام "البعث"، حيث رأى بوضوح ما يُحاك للعراق من تخريب وتدمير وفوضى وتحويله إلى دولةٍ فاشلة، وعرّى من خلال مقالاته المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية، ومداخلاته في مناسبات عديدة، منظومةَ الفساد، السلطة الجديدة التي أنتجها المحتلّ.
كما شارك مع مجموعة من المؤلّفين في وضع كتاب "العراق تحت الاحتلال: تدمير الدولة وتكريس الفوضى" (مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، الذي تناول الجرائم الأميركية بحقّ العراق والعراقيين والأسباب التي حالت دون وقفها، مع التأكيد على أن مصير المشروع الاستعماري إلى زوال، إذ لا مفرّ من مواجهة الهيمنة والعدوان.
تلفت الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة، زوجة الأعظمي ورفيقة دربه، في مقال نشرته منذ أيام، في "القدس العربي"، إلى العقول العراقية التي ترجّلت من قطار الحياة في محطّات الشتات، وما تمثلّه من خسارة كبيرة كأشخاص وثروة وطنية، وآخرها الأعظمي، المتخصّص في تعليمات الرياضيات، والذي عمل على خلْق صِلات بين هذا الحقل وبين علم النفس المعرفي والإبستيمولوجيا وعلم النفس الاجتماعي.
آمن بدور العِلم في البناء الديمقراطي للعالم العربي
وتوضّح أنه "من التعليم إلى السياسة، عمل منذر على صياغة برنامج 'التدرج في المساهمة الديمقراطية'، مركّزاً على مجالات الخدمات غير السياسية التي يمكن لمؤسّسات المجتمع المدني تقديمها في ما أُطلق عليه مصطلح 'الاستثمار الاجتماعي'. وعن دور التعليم في البنّاء الديمقراطي في بلداننا، كان سؤاله الأبرز: مَن يُعلِّم المعلّمين؟ هل بإمكانهم نقل قيَم - لم يتربّوا هم أنفسهم عليها - إلى طلابهم؟ وكيف يمكن حلّ هذه المعضلة في غياب النشاط الصفّيّ المحفّز لصياغة أسئلة من قِبَل الطلاب أنفسهم، حيث تجري غربلتها وبلورتها؟ هل يمكن الاعتماد على معلّمين من بلدان وثقافات ولغات أُخرى، أم علينا ابتداع طريق تجريبي يساهم فيه المعلّمون والطلّاب سوية يجمع بين التفكير النقدي والتحليلي والتفكير الإبداعي التركيبي، مما يقود ضمنيّاً إلى تقبُّل الاختلاف وبالتالي المواطنة والديمقراطية؟".
حاز الأعظمي إجازة جامعية في مجال الجيوفيزياء من موسكو منتصفَ ستينيات القرن الماضي، ثم انتقل إلى لندن والتحق بـ"جامعة دورهام". وبعد أن حاز درجة الماجستير وبدأ الإعداد للدكتوراه، ترك الدراسة، بحسب الباحث العراقي سعد ناجي جواد، حيث التحق بالمقاومة اللبنانية، ثم عاد إلى بريطانيا (1969) حيث عمل في التدريس، متخصّصاً في علم الحاسوب وبحوث ومناهج وتدريس الرياضيات، كما ألّف العديد من الكتب في تطوير الذكاء.
غادَر العراق ولم يغادره أبداً، حاملاً فلسطين في قلبه
استند الراحل إلى خلفية ماركسية شكّلت أساس تكوينه السياسي، لكن الإيديولوجيا لم تكبّله في العديد من آرائه ووجهات نظره التي خالفت قيادات "الحزب الشيوعي العراقي"، خاصّةً في موقفه الثابت ضدّ الغزو الأميركي للعراق. وكان في الوقت نفسه منفتحاً على جميع الأطياف والتوجهات السياسية ما لم تتعارض مع قناعاته الرافضة للاستبداد أينما كان، وانحيازه المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
احتفاءً بمسيرة وحياة الأعظمي واستعادةً لتجربته، يُقام عند الرابعة من عصر غدٍ السبت لقاء في لندن، كما أعلنت زنكنة، التي ختمت مقالها الأخير بقولها: "هو الذي غادر العراق ولم يغادره أبداً، حاملاً فلسطين في قلبه، مردّداً أنها قضية العالم أجمع إذا أراد العالم أن يحافظ على إنسانيته. على ضريحه، حُفرت ترنيمةٌ تجمع بينه وبين رفيقه مظفّر النوّاب والشاعر التشيلي بابلو نيرودا وبدر شاكر السياب. 'عراق… عراق… قلنا: يا هذا الضالعُ بالهجرات/ هل يوصلك البحر إلى العراق؟/ قال: أحمل كلَ البحر وأوصِلُ نفسي'".
يُذكر أن الأعظمي وزنكنة أطلقا قبل سنوات، بتمويلهما الخاص، "جائزة كتاب العراق"، وهي استمرار لـ"جائزة الدراسات العراقية المعاصرة" التي تأسّست عام 2006، وتهدف "إلى تقدير مؤلّفي الكتب عن العراق باللغة العربية، وتسليط الضوء على الكتب الفائزة، وتشجيع المترجمين ودور النشر الأجنبية على اختيارها للترجمة والنشر".