تضن علينا المصادر التاريخية والجغرافية العربية بالأخبار والمعلومات؛ حول أوضاع بلاد الشام في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والسبب في ذلك؛ تراجع حركة التأليف باللغة العربية بعد ضم هذا الإقليم العربي إلى السلطنة العثمانية، واقتصارها على نصوص ورحلات صوفية قليلة جداً مكتوبة بلغة متكلفة محشوة بالسجع والطباق والجناس. ومن هنا تأخذ كتب رحلات الغربيين أهميتها، حيث تسد ثغرات مهمة في تاريخ المشرق العربي خلال تلك الحقبة المظلمة.
من الرحلات المهمة خلال القرن السابع عشر، رحلة كتبها مؤلف بريطاني مجهول، كان يعمل في "شركة المشرق البريطانية"، التي كانت تتخذ من مدينة حلب، شمالي سورية، مقراً لها. وهذه الشركة تأسست في العام 1592 من اندماج شركتين اثنتين، واحدة منسوبة لتجار بنادقة اسمها شركة البندقية، والثانية شركة بريطانية دعيت الشركة التركية، وبعد أن اشترى البريطانيون شركة البندقية، وافقت الملكة إليزابيث الأولى على الميثاق الأول لشركة المشرق في 11 أيلول/سبتمبر عام 1592، والذي كان يهدف إلى تنظيم التجارة الإنكليزية مع الإمبراطورية العثمانية وبلاد الشام.
وهذه الشركة لم يكن لها أي طموحات استعمارية ظاهرة، وكان هدفها إنشاء مراكز تجارية في منطقة المشرق، وخصوصاً حلب التي اتخذتها مقراً رئيساً، وافتتحت فروعاً في إسطنبول وأزمير. وكانت تجارة الأسلحة في ذلك الزمن ذات مردود كبير، حيث قام الباب العالي بتحديث قواته وإعادة تجهيزها، كما كانت صادرات المنسوجات إلى أسواق مدن السلطنة ذات أهمية متصاعدة، وخصوصاً بين عامي 1609 و1619، حيث ارتفعت صادرات الملابس إلى رعايا السلطنة من 46 بالمائة إلى 79 بالمائة من إجمالي صادرات الملابس الإنكليزية.
وفي المجمل كانت هذه الشركة واحدة من أولى المحاولات البريطانية الجدية للسيطرة على السوق العالمية، فقد جمعت رأس مال كبيرا، وزادت من تجارة الشحن، وخفضت أسعار البضائع الشرقية، وأدخلت سلعاً جديدة إلى إنكلترا، وكانت وسيلة مهمة للتواصل بين إنكلترا والإمبراطورية العثمانية.
عزلة وظيفية
صاحب الرحلة عرف عن نفسه بحرفين فقط هما تي وبي (TB)، وكان بريطانياً بروتستانتياً، عمره يراوح بين عشرين وثلاثين عاماً؛ عاش معظم شبابه في حلب، إذ كان هؤلاء الموظفون يأتون للعمل في هذه الشركة لمدة عشر سنوات، يجمعون خلالها ثروات معتبرة يعودون بها إلى الجزيرة البريطانية لإنشاء مشاريعهم الخاصة.
وعلى الرغم من أن هذه الرحلة تبدو في معظمها ذات طبيعة دينية، إلا أن صاحبها لم يستطع أن يغض نظره عن خصائص المدن والأرياف التي مر بها، وأوضاع السكان، وما يتم تداوله من السلع والأموال. وقد أوقف وصف المواقع بمجرد دخوله القدس؛ حيث كتب فقط عن الأماكن الدينية.
وينتقد كاتب الرحلة بشدة العرب، فربما تنازل لهم أحياناً، أو خاف منهم أحياناً أخرى. بينما لم يبد أي مشاعر معادية لليهود أو الكاثوليك. وقد يشير موقفه المعادي للثقافة العربية إلى حياة هؤلاء الموظفين التي كانت سمتها الأبرز العزلة الاجتماعية عن وطنهم إنكلترا، وعن مدينة حلب التي عاشوا فيها. ولا شك في أن مشاعره المعادية تعكس إحساساً بريطانياً بالتفوق، خصوصاً مع صعود تجاري عالمي، تزامن مع ثورة صناعية خولتها خلال عقود لأن تصبح القوة المهيمنة في العالم أجمع.
وباء الطاعون
بدأت الرحلة في نيسان/ أبريل من عام 1669، حين توقفت حركة التجارة في حلب بسبب اقتراب الطاعون من المدينة، بعد أن عصف بالقرى المجاورة. وفي العادة، حين كان الطاعون يقترب من حلب، كان الكثير من السكان يلجؤون إلى جبال بيلان غربي المدينة، وينتظرون هناك انتهاء الوباء. ومن غير المعروف إن كان صاحب الرحلة ورفاقه الثلاثة عشر من العاملين في شركة المشرق، قد توجهوا إلى القدس بهدف زيارة المشاعر المقدسة، أم لاستكشاف المنطقة لغايات تجارية نظراً للمعلومات المفصلة المتعلقة بأوضاع الأماكن التي زاروها.
أبحر صاحب الرحلة والمجموعة التي معه يوم الثلاثاء 3 أيار/ مايو من ميناء إسكندرونة إلى الغرب من حلب، على متن السفينة مارغريت، بقيادة القبطان توماس ميدلتون. وقد منعهم سوء الأحوال الجوية والرياح غير المواتية من الوصول إلى ميناء طرابلس حتى 10 أيار/ مايو.
وقال في وصفه للمدينة: "وصلنا إلى طرابلس التي تحمي ميناءها ست قلاع صغيرة، تتقدم إلى البحر، وقلعة كبيرة على اليابسة محمية من العواصف، وهي بدورها تحمي السفن من الرياح الشمالية التي يمكن أن تضرب الميناء. الأرض صخرية، مما دفع النوتية إلى رفع مراسيهم. تقع المدينة على بعد حوالي ميل من أراضيها البحرية، على تل مرتفع، ولديها قلعة جيدة للدفاع عنها؛ وهي مدمرة، وفيها عدد قليل من السكان يمكن رؤيتهم في ذلك الوقت، حيث كان معظم الناس في بساتينهم يجمعون شرانق الحرير".
جبل لبنان
بعد ثلاثة أيام من المكوث في طرابلس، توجهوا إلى جبل لبنان ووصلوا إلى بلدة إهدن المارونية. ويشير إلى أن الأسقف الماروني في البلدة أخبرهم أن آدم نزل هنا عندما أكل التين المحرم في الجنة، ويؤكد كاتب الرحلة جهل هذا الأسقف الذي كان الجميع يقبلون يده، ولذلك لم يدخل معه في أي نقاش حول التين والتفاح. وقد دعاهم ذلك الأسقف "الجاهل" إلى عشاء ذبح فيه خروفين وماعز، وقدم لهم أفضل أنواع النبيذ الذي ينتجه الجبل، من الصنفين الأحمر والأبيض.
من إهدن توجهوا إلى الأرز، وكتبوا أسماءهم على الأشجار، وهنا صادفوا مختار قرية بشرّي ولبوا دعوته لتناول العشاء، ويبدو أن هذا المختار كان يأخذ الضرائب لصالح العثمانيين، إذ كان لديه مئة جندي تحت إمرته، وجميعهم من المسيحيين.
من بشرّي توجهوا إلى مقر بطريرك الموارنة [جرجس الثاني البسبعلي] في دير قنوبين، بعد أن ساروا ثلاث ساعات على ظهور الدواب، في طريق يلتف حول منحدر عميق عظيم. ويقول إنه دير جيد جداً، ويقع بين الصخور، وفيه كنيسة ذات جرس كما في أوروبا، تقام فيها الصلوات صباحاً ومساءً. ومن هناك زاروا دير القديسة مارينا، وهي كما يخبرنا فتاة أصلها من البندقية في إيطاليا، اختار والدها أن يعيش حياة الرهبان في جبل لبنان أيام الحروب الصليبية، وكانت ابنته تتزيا بزي الرجال، وتقول للناس إن اسمها مارينوس، وتعيش مع والدها حياة الرهبنة، إلى أن اتهم مارينوس بأنه اغتصب فتاة من القرية، فأقر بذنبه انقاذاً للفتاة، وربى مولودها واعتنى به، وعندما مات تبين للرهبان أنه فتاة تدعى مارينا، واتضحت قصتها لهم، فكرموها وطوبوها قديسة.
دير قنوبين
يخبرنا كاتب الرحلة أن في دير قنوبين راهبين من فرنسا يعيشان حياة النساك، وقد سمح لهما البطريرك بصنع الخبز والخمر، وفي المساء ذهب ورفاقه لتناول العشاء مع البطريرك، وكان أسقف حلب موجوداً ومعه أسقفان آخران، حيث قدموا لهم ما أتاحه المكان. وعلى العشاء أحضروا كأس خمر كبيرة تتسع لثماني كؤوس أخبروهم أنها كانت في الدير منذ مائة عام. وأن جنود الأتراك أتوا مرة واحدة إلى الدير لكي ينهبوه ورأوا تلك الكأس، فسألوا الإخوة في الدير إن كان بإمكان أحدهم شرب كل ما فيها من النبيذ النقي إن كان يريد إنقاذ الدير. وقد تطوع أحد أولئك الإخوة وشرب الكأس، وأنقذ الدير، وذهب الأتراك وهم معجبون به.
في اليوم التالي استأذنت المجموعة من البطريرك، وقدمت له هدية نقدية، وكذلك للإخوة الفقراء، وباقي الرعية التي تخدم وتقيم في الدير، قبل أن يعودوا إلى طرابلس في طريق جبلي فيه الكثير من القرى الجميلة، والعديد من الوديان المزروعة بالذرة، والكثير الكثير من مزارع التوت التي تشكل مصدر رزق السكان في صنع الحرير.
إلى يافا والقبر المقدس
بعدها بيومين أبحروا إلى يافا، وبسبب سوء الأحوال الجوية اضطروا للتوقف في عكا، ومن هناك توجهوا إلى جبل الكرمل، وزاروا قبر إيليا، ثم مروا بجوار مدينة قيصرية فلسطين، وقال صاحب الرحلة إنها الآن مأهولة بجماعة من العرب المتوحشين. وفي الثالث والعشرين من أيار/ مايو وصلوا إلى يافا.
وحول هذا الميناء الذي يشكل البوابة البحرية للقدس قال صاحب الرحلة: "ليس لها ميناء لحماية السفن من العواصف، ولكن لديها موقع ممتاز للرسو. إنها مدينة فقيرة، فيها قلعة واحدة بالقرب من الشاطئ للدفاع عن السفن القادمة. تجارة يافا الرئيسة تتكون من الرماد الذي يدخل في صناعة الصابون، وكذلك القطن، وغزل الكتان، وهي الصناعة التي جلبها الفرنجة من هناك".
في اليوم التالي توجهت المجموعة إلى الرامة، ويقول صاحب الرحلة إنها قرية جميلة، ولكن أهلها فقراء ومصدر رزق النساء فيها سلعة يسميها فيلادو. وهناك يلجؤون للدير بانتظار وصول الإذن بدخولهم إلى المدينة بعد أن وصلت الأخبار بانتشار الطاعون في المكان الذي أتوا منه. وفي الخامس والعشرين من أيار/ مايو توجهوا نحو القدس ودخلوا إلى المدينة من بوابة يافا، بعد أن سلموا سيوفهم وما كان معهم من أسلحة أخرى ليتم نقلها إلى دير اللاتين، حيث استقبلهم الأب رئيس الدير، وخصص لهم أماكن للمبيت، وأهداهم ثلاث زجاجات من أفضل أنواع النبيذ.
وفي صباح اليوم التالي جاء الأب توماسو، وكان جاداً ومتديناً، مصطحباً معه الحليب والنبيذ والفاكهة، مع عبارات المباركة، وفي المساء حضروا قداساً في الدير أنشدت فيه أناشيد جميلة. وفي صباح اليوم التالي زاروا كنيسة القبر المقدس. ويقول صاحب الرحلة إن المكان الذي وضع فيه يسوع ليسمر على الصليب مرصوف بالرخام، والموضع الذي صُلب فيه مرصع بالرخام ايضاً، ولكن في المكان المحدد حيث وقف الصليب، كان الرخام مغطى بالفضة، تعلوه مصابيح فضية، والشموع مشتعلة باستمرار. ويضيف أن القبر مكسو هو الآخر بالرخام، ومصابيح الفضة دائمة الاشتعال.
ويشير كاتب الرحلة إلى وجود كنائس لجميع الطوائف المسيحية، ويرى أن اليونانيين، أي الروم الأرثوذوكس، لديهم أفضل هذه الكنائس، وكذلك للاتين والأرمن والأقباط والسريان. ويقول إن الروم والكاثوليك يمثلان الديانتين القويتين في كنيسة القبر المقدس بفضل الأموال التي يملكونها، فهم يشترون باستمرار هذه الأماكن المقدسة من بعضهم البعض. ويؤكد أن اللاتين (الكاثوليك) عرضوا عشرة آلاف قطعة ذهبية مقابل شذرة من الصليب سبق أن اشتراها اليونانيون (الروم) منهم. لافتاً إلى أنهم لا يحترمون بعضهم البعض ويتشاجرون.
ويقول إن كنيسة السريان تشتمل على قبر يوسف الرامي، ونيقوديموس، وقبور جودفري وبلدوين من ملوك القدس الصليبيين. وفي نفس المكان يوجد ربع الصخرة، بالقرب من المكان الذي صُلب فيه يسوع.
في بيت لحم
في الثلاثين من أيار/ مايو، ركب صاحب الرحلة وصحبه الأحصنة وتوجهوا إلى بيت لحم من البوابة الغربية التي تسمى بوابة يافا، ثم انعطفوا يساراً عبر الطريق السفلي، ومروا على طول الطريق الذي سلكته العذراء مريم، عندما أتت لتقدم يسوع إلى الهيكل، وبعد ساعة ونصف من الركوب، وصلوا إلى بيت لحم، فاستقبلهم الحرس المكون من أربعة أو خمسة موسكوفيين، أخذ كل واحد منهم خمس قطع من النقود، أما الألماني الذي رافقهم فأخذ ثلاثا. وعند وصولهم إلى الدير دفعوا قطعة واحدة مقابل دخولهم.
في المساء ذهبوا لزيارة مكان ميلاد المسيح، وهو مكان كان بملكية اللاتين (الكاثوليك) حتى اشتراه اليونانيون (الروم) منهم، ويخبرنا أن اللاتين في زمن الرحلة كانوا يذهبون للصلاة في موكب، ويدخلون من الباب الذي دخلوا منه سابقاً.
ويقول إن القبو يحتوي على بابين، أحدهما مقابل الطرف الآخر تماماً. وقد دخلوا حفاة من الباب الأيمن، حيث رأوا المكان الذي يقولون إن المسيح وُلِدَ فيه وهو مغطى بالرخام؛ وفي وسط الغرفة يوجد مكان صغير مغطى بالفضة، يضعون فيه طبقًا لتلقي الصدقات، وعلى اليسار يقع المذود، حيث وضعت العذراء طفل المعجزة؛ وهو مكسو بالرخام، وفي نهاية المذود على الجهة اليمنى، توجد صورة القديس جيروم في الرخام والتي اعتبرها الآباء بمثابة معجزة.
رحلة العودة
بعد بيت لحم يزور كاتب الرحلة ورفاقه أريحا ونهر الأردن والبحر الميت، وفي الرابع من حزيران/ يونيو، تغادر المجموعة القدس، وتصل في اليوم التالي إلى رمات شمالي يافا، حيث أبحروا في قارب صغير، وساروا على طول الشاطئ خوفًا من العواصف. وفي الثامن من حزيران/ يونيو ركبوا سفينة من عكا أبحروا فيها إلى طرابلس. ولا يعودون فوراً إلى حلب لأنهم مكثوا فترة في جبال لساحل السوري لبعض الوقت من أجل انتظار زوال الطاعون. وفي 26 حزيران/ يونيو وصلوا إلى إسكندرونة، حيث كان الكثير من الناس يموتون بالوباء. ثم في 2 تموز/ يوليو عادت المجموعة إلى حلب، رغم أن الطاعون كان لا يزال منتشراً هناك.