ليل من قشّ
آكل حبة أفوكادو، مع أخي، كوجبة عشاء متقشفة. طعمها في حلقي سيئ. لا أعرف: كأنما أعلك حزمة من القشّ الرطب. فالحبة من النوع الرديء.
أقول لأخي: لا تشتري في المرات القادمة، إلا الأفوكادو البُنّيّ ذا القشرة الخشنة. فمن خلال خبرتي، أيام عملي في محل لبيع الخضروات، في يافا، أعرف أنّ أسوأ أنواعه هو الأخضر الفاتح ذو القشرة الملساء.
- ما أكلناه الآن، أفوكادو بطعم القشّ الرطب. وثمة نوع أسوأ يُصدّر خصيصاً لغزة، وطعمه يتطابق مع طعم الكرتون المقوى! هل تتصوّر كيف يدفع المرء فلوساً ليمضغ كرتوناً مقوّى!
يقهقه أخي. ثم يعرض عليّ النزول لتناول الشاي.
- صُدّت نفسي. أريد المكوث هنا.
يغادر، ويترك الباب موارباً، للتهوية.
ألقي نظرة على سريره، فأجد كتباً دينية وهابية. كتاب منها بعنوان "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". و"إلا ليعبدون" مكتوبة بخط كبير أحمر على الغلاف.
أبتسم بغيظ! فإذا كانوا كذلك، فمتى سيبنون حضارة؟ ومتى سيكون لهم مكان تحت الشمس؟ ومتى سيكونون قادرين على مواجهة "إسرائيل"؟ إلا ليعبدون؟ وهل تعمر الدنيا فقط بالعبادة؟ وماذا عن التنمية، الصناعة، الزراعة والهاي تيك؟ بالمناسبة، رئيس بلدية الاحتلال هنا متخصص في الهاي تيك، ويقال إنه أنشأ شركة رائدة مختصة بالتكنولوجيا الدقيقة الفائقة.
طعم القشّ في زوري. طعم القشّ يكاد يخنقني، ويبدو أنّ هذه الليلة كلها منذورة لفجيعة القشّ!
أنزل لأخي، وأعبّ من عبوة الحليب المبستر سعة لتر. أشرب ربعها تقريباً، ومع هذا، لا يزول الطعم الفظيع.
أحكي للمستخدم الليليّ، فينصحني بشرب كاسة قهوة.
- يا ليت! إني محروم من القهوة منذ ثماني سنوات.
- عليك باللبن الرائب إذاً.
وظيفتي هنا هي إشغال أخي عن نفسه، عن هواجسه السوداء
أصعد للغرفة، ويقتحمني ضجيج التلفزيون، الآتي من الغرفة الملاصقة. الجهاز موضوع على الحائط المشترك. إنها نشرة الأخبار. وغالباً ما تنسى الجارة الصوت عالياً. سأنبّهها بلطف. فهي مقطوعة هنا، ولا تختلط حتى بالنساء.
أُفكّر: تشاغلت عن أخي، حتى جاوزت الحد. كلا. لقد جئت معه من أجل خدمته. كي أكون يده اليمين. لذا لا يصح استمرار وضع كهذا.
أفكّر: هل نسيت أمي وتوصياتها، هي المريضة، بألا أفارق أخي دقيقة واحدة، ليل نهار؟
أفكّر: وظيفتي هنا هي إشغاله عن نفسه، عن هواجسه السوداء. ومنعه من الدخول في شبكة من الطرق الملتوية، الموصلة، في نهاية المطاف، للموت المعنوي.
اللعنة! لقد قصّرت بواجبي تجاهه. لن أتركه دقيقة بعد اليوم!
■ ■ ■
السبت
وقعت اليوم على حاج من جماعة "نيو بورن" - إعادة الولادة. وهم طائفة مسيحية صهيونية، تؤمن أنه لكي يعود المسيح، يجب أن يتجمّع اليهود في فلسطين وأن تكون طاهرة خالية من العرب.
- ليش؟
يجيبني بكل براءة وحماس [حتى اللحظة لا يعرف أنني عربي!].
- لكي يُقيم اليهود مملكة الرب، فيتوفّر الشرط لنزول المسيح.
يأخذ المفتاح ويصعد إلى غرفته. أظل ماكثاً بجوار لؤي موظف الاستقبال. يقول لؤي: على فكرة، عندما يأتي أفراد هذه الطائفة لزيارة الأراضي المقدسة: يزورون حائط البراق قبل زيارتهم لكنيسة القيامة.
■ ■ ■
الأربعاء 14 أكتوبر
من شبّاك غرفتي أرى برج "الجامعة العبرية". برج إسمنتي مخلوط بالمعدن. برج ناشز ومعتدٍ على المحيط من حوله. تماماً كما هي كل مبانيهم العالية الضخمة القبيحة المرئية على مدّ البصر. فحين احتلت "إسرائيل" المدينة، استولت كعادتها على سفوح الجبال. وكل ما أراه الآن من إنشاءات عملاقة، لم يكن موجوداً، في غالبه، قبل الـ 67. فضلاً عن أنه يسيء إلى تناغم المكان والطبيعة والطبوغرافيا. فبناؤهم من إسمنت (حتى لو حاولوا كسوته بواجهات من الصخر. واستعانوا، لذلك، بعمال فلسطينيين. فهم يفتقرون إلى مهارة وفن وعبقرية البنّاء الفلسطيني) بينما في المقابل، كل مباني القدس العربية مبنية من حجر الصخر المأخوذ من جبالها.
أحدّق في البرج القريب، ولا أعرف لمَ خايلني الهاجسُ بأنني أحدّق في خازوق.
■ ■ ■
يوم آخر
اليوم قبل الظهر، عدت ودخلت كنيسة "المصعد"، الملاصقة لفندقنا "الحيط بالحيط". ها هو أمامي: على غير ما يوحي به المعنى المألوف لكلمة "كنيسة"، فما هو بكنيسة ولا فيه صلبان ولا مذبح ولا مكان مفتوح يمكن الصعود منه للسماء. فقط: خلاء مُسوّر، وقبة مُثمّنة الأضلاع ضئيلة المساحة، وفي وسطها على الأرض، ثمة مستطيل صخري صغير، وفوقه ثلاث شمعات نحيلات النور، مغروسة في إناء به رمل. فيما الحمام يهدل في الفتحات، أعلى القبة. لم يلفتني شيء ذو بال، فخرجت.
■ ■ ■
الخميس 2 أكتوبر
في المساء ذهبت لزيارة دير الصعود المجاور. ضغطت على جرس البوابة، فأطلّ من فُرجة صغيرة راهبٌ نحيف البُنية. فتح وتكلّم بالروسية، فلم أفهم. وبإنكليزيتي القليلة، أخبرته مبتغاي، فإذا به ينطق كلمة واحدة بالعربي:
- بُكره.
تسيء عمارة الاحتلال الإسمنتية إلى تناغم المكان والطبيعة
أثناء الحديث، دخلت الدير ثلّة من الراهبات، كنت رأيتهن يتجوّلن في المنطقة، و"بوم القدر على أكتافهن". تكلمت مع إحداهن فإذا هي تجيد العربية. اتفقنا على لقاء رئيسة الدير في العاشرة من صباح بعد غد السبت، بمكتبها.
قلت لها: أريد مترجماً. فقالت إنها، أي الرئيسة، تجيد ست لغات، بينها العربية.
جيد جداً.
عدت للفندق، وكلمت الموظف، فأعلمني أنّ أخاه يعمل في الدير. فلأذهب إليه، قال، وهو سيرتب الموضوع.
- قل له جاي من طرف وليد.
وحكى لي ما يعرفه عن الدير: يُعتقد أن رهبانه وراهباته كانوا مطرودين من القيصر الروسي. ولهذا كانوا يعتمدون على جهدهم اليدوي، في تدبير معيشتهم. فكانوا يزرعون الزيتون ومحاصيل أخرى، ويحصدونها للبيع. وإلى عهد قريب، أي ما قبل السبعينيات، كان حالهم مزرياً، ويبدون في بؤس فاضح. وبعد السبعينيات، وبالخصوص في حكم يلتسين، تبدّل الحال، وعاد الحجاج لزيارة الدير بكثافة، وتقديم التبرعات والمساعدات.
قال: إنّ جرسية الدير ذات الارتفاع الهائل، كانت أيام الانتفاضة، مشغلة للشباب. كانوا يصعدونها ويعلّقون عليها العلم الفلسطيني، أو يرسمونه رسماً في قمة البرج!
قال أيضاً: لديهم احتفال سنوي في يوم معلوم اسمه "يوم الطور". يُفتح فيه الدير لعامة الناس، حيث يحتفل الجميع بأكل البيض الملون تحت الشجر وفي الساحات.
■ ■ ■
الجمعة 16 أكتوبر
صباح هذا اليوم، جلسنا على المصطبة الصخرية، وراء الفندق، ورأينا أفواجاً من السياح، تنزل من الباصات، وتدخل وتخرج من الكنيسة. لفت نظري مسيحيون يابانيون وكوريون، في يد أحدهم كتاب سياحي ضخم، على غلافه الملون صورة للمدينة القديمة بكنائسها، وتتوسطها قبة الصخرة. معظم السياح كانوا ألماناً وإيطاليين، وقد نسيت إحداهنّ [وهي شابة] كاميرتها الكبيرة الثمينة بجوارنا، حيث كانت مرشدة سياحية تشرح لهم طبيعة وتاريخ المكان، ويبدو أن السائحة الشابة انسجمت مع الحديث، وحين قاموا ليتفرجوا على مكان صعود المسيح، نسيت الكاميرا، فما كان مني، إلا أن أخذتها وأريتها لهم، هناك في الداخل، فتعرّفت عليها صاحبتها، وشكرتني.
لا يعدم أن ترى شباناً وشابات بين السياح، إنما غالبيتهم من الكهول والكهلات. كما لا يعدم أن ترى بينهم شابات غاية في الجمال، يضعن مناديل على شعورهن، قبل دخول المكان المنويّ زيارته، وفي هذا السياق، يتوجب أن نشير إلى حشمة النساء الروس أكثر من سواهن من الحاجّات الغربيات.
■ ■ ■
الجمعة 23 أكتوبر / هنود وموسيقى وتراتيل
حجاج هنود مسيحيون، يعيشون في بريطانيا، ويتجمّعون كل مساء في "الريسبشن".
ما أدفأهم! "غروب" من حوالي ستين رجلاً وامرأة. يمارسون صلاتهم واحتفالاتهم الدينية بالموسيقى والغناء الجماعي. إنهم ينزلون الفندق كل عام، في نفس التوقيت. لم يتغيّبوا سوى مرة وحيدة أثناء الأحداث الساخنة للانتفاضة.
نفس الملامح، نفس الأزياء الوطنية، نفس العادات للهنود في كل مكان وزمان.
معظمهم من الشباب، وقلة فقط تجاوزت الخمسين والستين.
يبدأون الغناء في السادسة ويستمرون إلى ما قبل انتصاف الليل. غناؤهم يصلنا في الطوابق الأربعة، فينزل منّا مَن يحب أن يرى ويستمع (في الحقيقة أنزل أنا فقط).
المثير أنّ لهم أطباعنا الشرقية ذاتها تقريباً. فصباح هذا اليوم، نزلوا القاعة للفطور، وأكلوا بصخب مثلنا نحن الغزاويين. بل شاهدتهم وهم يملأون زجاجاتهم بالعصير، فلا يكتفون بما شربوه.
لهم أكل هندي خاص، يتدبّره صاحب الفندق، كلما حلّوا. ولم أجد جرأة لتناوله، فمعدتي على قدّي.
سمر الوجوه، ببشرات تكاد تكون محروقة. وأميل إلى النحافة، رغم كروش بعضهم الصغيرة.
استمتعت بجمال بعض شاباتهم، وبأمومة كهلاتهم. ذلك الجمال وتلك الأمومة الهندية الرؤوم. غير أنّ ما جعلني أحرص على حضور حفلتهم الليلية هو صوت مغنيهم ومغنيتهم الجميلين، وكيف يمتزجان في سبيكة من الذهب النوراني.
يبدو أنّ من أسمعهم في فندق الجلجلة هذا هم مغنّون محترفون. وما أسرع ما يجمع الفنّ!
"الجامعة العبرية" برج إسمنتي ناشز ومعتدٍ على محيطه
تعلّقت بهم: بطيبتهم وبساطتهم، بأصواتهم السماوية، بذلك الشجن الغامض المسرسب الحاد في تراتيلهم. وبذلك الجمال المغوي لواحدة منهم.
مكثوا أسبوعين، ومضوا إلى غاياتهم، تاركين وراءهم امرأة منهم. ظلّت معنا وحيدة، تختلط بنا، وتودّع نساءنا العائدات لغزة بالقبل والهدايا.
وذات ليل، عرفت أنها تعمل في وول ستريت، وأنها تأخرت للقاء صديقها الأفريقي. ثم بعد أيام جاء صديقها واختفت.
الآن، إذ أكتب هذه السطور، أتذكّرهم وأحنو على ذكراهم. فلقد شعرت بقرب منهم، لم أشعر بمثيله تجاه السياح الغربيين، وحتى السياح الروس.
■ ■ ■
السبت ضحى
الفندق خالٍ. الطابق الثاني حيث أقيم، بلا حركة. فرصتي لكتابة بعض رؤوس الأقلام والملاحظات.
كلهم، رجالنا ونساؤنا، ذهبوا للصلاة في الأقصى.
بعد ساعة ونصف، تحين وجبة الغداء في المطّلع. أمامي القليل لأكتب. وربما أواصل الكتابة، إذا تيسّرت معي، ولا أذهب هناك.
كل يوم رزّ مفلفل بائخ، مع طبق شوربة بلا طعم.
كل يوم خسٌّ وجزر!
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول تجربته في عام 2009