مهرجان بوغوتا للأدب.. فلسطين حرّة في كولومبيا

30 نوفمبر 2023
من الأمسية الشعرية في اليوم الختامي للمهرجان (العربي الجديد)
+ الخط -

كانت فعالياتُ النسخة الثانية عشرة من "مهرجان بوغوتا الأدبي"، الذي أقيم في العاصمة الكولومبية مؤخراً حدثاً غير عادي في أول بلد لاتيني أميركي طرد السفير الإسرائيلي وسحب سفيره من الكيان الصهيوني. المهرجان الذي تنظّمه مؤسّسة "فهرنهايت451" الثقافية منذ اثني عشر عاماً - إضافة إلى نشاطاتها وفعاليّاتها الأدبية والثقافية المستمرّة في المجتمع المدني، والمؤسّسات التعليمية، والسجون، وغيرها من مساحات العمل الثقافي والاجتماعي- كرّس جميع فعالياته وطاقاته هذا العام لفلسطين وشاء القدر أن يأتي العدوان على غزة تزامناً مع أيام المهرجان.

في عام 2010 كانت قد دُعِيَت للمهرجان الشاعرةُ الفلسطينية ناتالي حنظل، وتركت بين منظّميه، وعلى رأسهم الكاتب الكولومبي خافيير أوسونا، فكرةَ تخصيص دورة من المهرجان للأدب والثقافة الفلسطينيَّة. بعد مرور اثني عشر عامًا، وتحديدًا في نهاية العام الماضي، قرّرت مؤسّسة "فهرنهايت 451" تنفيذ تلك الفكرة، التي نشأت قبل عشر سنوات، وتقوم على أساس محاولة إنشاء فلسطين صغيرة، من خلال أنشطة وندوات وورش عمل تقدّم الثقافة الفلسطينية إلى الجمهور الكولومبي.

ومنذ البدء في التفكير في المهرجان، وجد فريق العمل أنّه، ولكي يكون المهرجان ناجحاً، لا غنى عن أن يكون لأعضاء الجالية الفلسطينية في كولومبيا بشكل عام، وبوغوتا بشكل خاص، دور رئيسي في فعاليات المهرجان. هكذا بدأ فريق التنظيم يتواصل مع أعضاء الجالية الفلسطينية وفريق من الكتّاب والأكاديميين والفنانين ذوي الأصول العربية، أو المشتغلين بالثقافة العربية في كولومبيا.

روح جماعية أهلية احتفت بالثقافة الفلسطينية وآدابها وفنونها

وإلى جوار التعاون مع أعضاء الجالية الفلسطينية في كولومبيا، وضعَ فريق مؤسّسة "فهرنهايت" في التوازي مع القضية الفلسطينية، مأساة كولومبيةً خاصّة. إنّها قضيّة الشعراء الكولومبيّين الذين قُتِلوا في أثناء فترة النزاع المسلح الكولومبي (1964 - 2016). اختارت المنظمة هؤلاء الشعراء السبعة والعشرين الذين تضمُّهم مختارات شعريّة سبق وأصدرتها بعنوان: "الجيل المبتور"، وأن يشكِّلوا معرضًا فلسطينيًّا كولومبيًّا يضمُّ إلى جانب الشعراء الكولومبيين، شعراءَ وفنانين فلسطينيين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي، قبل إعلان دولة الاحتلال وبعد تأسيسها اللاشرعي على أرض فلسطين.

ضمَّ هذا المعرض شعراء وفنانين شهداء مثل عبد الرحيم محمود، وكمال ناصر، وغسَّان كنفاني، وناجي العلي، ووصولاً إلى الشهيدة هبة أبو ندى، إحدى أواخر الكتّاب الفلسطينيين الذين قتلوا على أيدي الاحتلال في العدوان الحالي على غزّة.

بدأت فعاليات المهرجان يوم الخميس، التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر، في مسرح "سونيا فاخاردو" بـ"جامعة كونراد لورينز" بالعاصمة الكولومبية. توافدَ الحضور منذ ساعات المساء لزيارة معرض الشعراء الفلسطينيّين والكولومبيين من الأجيال المقتولة، وقد نُشرت قصيدة لكلِّ واحد من الشعراء والشاعرات، مصحوبةً بخريطة توضّح موضع مولده واغتياله، إضافة إلى نبذة عن حياته. كذلك زيّنت المعرض لوحة نُسج عليها أبيات لبعض هؤلاء الشعراء، نفّذتها الفنانة الكولومبية أندريا كينيونيس. 

ثم انطلق المهرجان بقراءة لقصائد الشعراء الفلسطينيّين والكولومبيّين قدَّمها مدير المهرجان خافيير أوسونا، وتبعه في القراءة كتّاب وفنانون من المشاركين في المهرجان، إلى جانب أقارب وأبناء بعض الشعراء الكولومبيين المقتولين، في نسيج من التضامن والمؤاخاة بين قضيتي البلدين، حيث قُرئت قصيدة أو مقطع من كل شاعر وسيرته.

بعد ذلك قدَّمَ مديرُ المهرجان الشاعرَ الفلسطيني نجوان درويش، ضيف شرف المهرجان الرئيسي، في نسخته الحالية، وأجريا معًا قراءةَ شعرية ثنائية اللغة، بالعربية والإسبانية، من مجموعات شعريّة مختلفة صدرت للشاعر عن دور نشر إسبانية ومكسيكية، وآخرها كتابه "تَعِبَ المُعلَّقون"، الذي صدر عام 2022 عن دار نشر "باسو روتو"، بتقديم الشاعر التشيلي راؤول زوريتا.

الكاتب الكولومبي خافيير أوسونا ونجوان درويش في أمسية الختام (مهرجان بوغوتا للأدب)
الكاتب الكولومبي خافيير أوسونا ونجوان درويش في أمسية الختام (مهرجان بوغوتا للأدب)

إضافة إلى الفعاليات الوجاهية كان اليوم السابق قد تضمّن عرض مقابلة مصوَّرة مع الكاتبة الفلسطينية الأميركية هلا عليان حول الكتابة والهوية وفلسطين. استمرت فعاليات المهرجان في اليوم التالي، بأمسية شعرية موسيقيّة على شرف الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، تعاونَ فيها كاتب هذه السطور والموسيقي المصري عبد الغني سيَّد، تبعها حوارٌ مع الكاتبة والحقوقية الإسبانية الفلسطينية الأصل جميلة فاخوري عن كتابها "شَمالي هو الجنوب"، الذي تروي فيه علاقتها بأصولها الفلسطينية وهويتها.

بعدها اجتمع عددٌ من أعضاء الجالية الفلسطينية في كولومبيا من الأجيال الأولى والثانية والثالثة وتحدّثوا عن الثقافة الفلسطينية في كولومبيا، واندماجهم وتكيّفهم مع ثقافة البلد الذي وفدوا إليه هم أو آباؤهم أو أجدادهم.

واختتمت فعاليات ثاني أيام المهرجان بعرض ستاند أب كوميدي للفنان الكولومبي الفلسطيني إبراهيم سالم، تناول فيه هويّته وأصوله، كما تطرق للهجرات الفلسطينية واليهودية إلى كولومبيا وأميركا اللاتينية، وتحدث عن العدوان الصهيوني الذي تواجهه غزّة الآن، ومزج في عرضه بين القراءة من بعض الكتب عن تلك الهجرات، والحديث عن مهنة "الستاند أب كوميدي" واستخدامه أصوله العربية وعلاقته باللغة والثقافة في عروضه.

الفنان الكولومبي الفلسطيني إبراهيم سالم
الفنان الكولومبي الفلسطيني إبراهيم سالم

اليوم الثالث كان ختام المهرجان، وكان يوم فعالياته الرئيسي، حيث استمرت نشاطاته من العاشرة صباحاً إلى ما بعد الثامنة ليلًا. بدأت فعاليات اليوم الختامي بورشة تفاعليّة مع الأطفال، مبنيّة على قصة القنديل الصغير لـ غسَّان كنفاني، واستخدمت الورشة عرائس لتقديم القصة للأطفال.

بعدها دُعي المشاركون للغداء وتناول أطباق فلسطينية تقليديّة قامت على إعدادها وتنظيمها "جمعية السيِّدات الفلسطينيَّات الكولومبيَّات"، وكانت هذه المساحة تهدف إلى دمج عنصر آخر من عناصر الثقافة الفلسطينية، وإن لم يكن بعيدًا عن الثقافة الكولومبية التي عرفت هجرة الكثير من الأطباق والأطعمة إلى طعامها نفسه مع أوائل الهجرات العربيِّة إليها منذ أكثر من قرنٍ من الزمان. 

استمرت النشاطات بندوة عن ذكريات النكبة قدّمها الأكاديمي الكولومبي فيليبي مدينة، وركَّز فيها على مخيَّمات اللاجئين الفلسطينيين منذ 1948، وعن الحق في العودة. وشارك فيليبي في استقبال خطابات من أطفال فلسطينيين من أحد مخيَّمات اللاجئين ونشرها أثناء فعاليات المعرض.

بعد ذلك بدأت الأكاديمية الكولومبية الفلسطينية أوديت جِدي محاضرتها عن أعمال غسَّان كنفاني، وعن نضاله السياسي، واغتياله. تعمل جدي مديرة لـ"معهد الثقافة العربية" في كولومبيا، وتشارك بشكلٍ فعّال في التعريف بالثقافة والقضية الفلسطينية، سواء من عملها مديرة ومؤسِّسة للمعهد، أو عملها الأكاديمي، ونشاطها في وسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، واجتماعات الجاليات العربية في دول مختلفة من قارة أميركا الجنوبية. كانت جدي قد أتمَّت دراسة الماجستير في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بـ"جامعة لندن" وكتبت عن أدب الشتات العربي والفلسطيني. 

لأكاديمية الكولومبية الفلسطينية أوديت جِدي
الأكاديمية الكولومبية الفلسطينية أوديت جِدي

وبعد محاضرتها عن غسَّان كنفاني، انضمَّت الأكاديمية لمائدة حوار عن الأزياء الفلسطينية وخصوصيَّتها، في جلسة أدارها خافيير أوسونا، وجمعها بالفنانة والناشطة الكولومبية أندريا كينيونيس، التي تحدّثت عن مشروع أمّهات الكولومبيين المفقودين لنسج أزياء تحمل أسماء ذويهم المفقودين. ثم تحدّثت عن نسيج هائل عليه قصيدة "غناء الموتى" للشاعر الكولومبي تيرسو بيليس، أحد الشعراء الذين اغتيلوا في أثناء فترة النزاع المسلح.

ومن فقرات المهرجان الفنية اللافتة عرض موسيقي راقص يستند على رقصة الدبكة، قدَّمته مجموعة من الشباب والفتيات الكولومبيين بإدارة الناشطة والكوريغراف الكولومبية عربية الأصل حنان المطوَّع، حيث وضَّحت في تقديمها للعرض أنَّ كل أفراد فريقها كولومبيُّون، لكنهم أغُرموا بالثقافة الفلسطينية ورقصة الدبكة. وفي نهاية عرضهم دعا أفراد الفرقة الجمهور لمشاركتهم هذا النوع من الرقص التقليدي الفلسطيني، إحياءً لهذه الثقافة المقاومة.

اختتمت فعاليات المهرجان بلقاء ومحاورة مع نجوان درويش، ضيف شرف المهرجان، أدارها خافيير أوسونا نفسه. تطرّقَ الحوار إلى أعمال الشاعر الفلسطيني المختلفة، لكنّ الجزء الأكبر منه كان للحديث عن فلسطين ولحظة المقاومة التي تعيشها اليوم ومعناها التاريخي، وطبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني، والفكر الاستعماري القائم على الإبادة، وما على الشعوب أن تفعل للتصدي له.

أشار درويش إلى إعجابه بشعر أميركا اللاتينية وصداقته مع شعرائها. كما شكرَ في حديثه الشعبَ الكولومبي على فهمه لمعنى القضية الفلسطينية، وأثنى على طرد الحكومة الكولومبية للسفير الإسرائيلي وسحب سفيرها، وشجّعها على قطع العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل مع كيان الاحتلال، لكي تكون رائدة في أميركا اللاتينية في مقاطعة نظام صهيوني وصفه بأنه "استعماريٌّ ساقط، وعلى كولومبيا أن تكون بلداً رائداً في مقاطعته وأن هذه المقاطعة من مصلحة الشعب الكولومبي نفسه، فالنظام الصهيوني عدو لحقوق الشعوب كلها".

تجاورت أسماء الشعراء الكولومبيّين القتلى مع شهداء فلسطين
 

رسالةٌ بثَّها درويش في جميع مقابلاته مع وسائل الإعلام الكولومبية، وفي لقائه مع وزير الثقافة الكولومبي الكاتب خوان دافيد كوريا، الذي أرسلَ معه رسالةً للرئيس الكولومبي، تحثّه على قطع العلاقات بالكامل مع النظام الصهيوني. في اللقاء الذي جرى في مقرّ وزارة الثقافة، بدعوة من الوزير للشاعر الفلسطيني، وبحضور كُتّاب وصحافيّين كولومبيين، سجّل خوان دافيد كوريا مع الشاعر الفلسطيني قصيدة "نوم في غزّة"، وبثّتها في اليوم التالي منصات وزارة الثقافة ووسائل إعلام كولومبية.

وبعد انتهاء الحوار، بدأت الأمسية الشعريّة التي قرأ فيها درويش بالعربية، وأوسونا بالإسبانية. ثم تلى ذلك إسدال نسيجٍ هائلٍ كتبَت عليه أمهاتُ الشعراء المخفيين والمقتولين قصيدة "غناء الموتى" للشاعر الكولومبي تيرسو بيليس، وقرئت ترجمتها بالإسبانية، قبل أن يبدأ الجمهور في قراءة القصيدة بشكل جماعي. وتبع ذلك إسدال ستار مماثل كتبت عليه قصيدة "حكاية صغيرة عن إغلاق البحر" لنجوان درويش التي قرأها بالعربية - وهي عن طفل من غزة اسمه تيسير- ليردد الجمهور أبياتها بشكل جماعي بالإسبانية كختامٍ للمهرجان الذي جعلَ فلسطين تحيا في وسط عاصمة لاتينية، ثقافةً وأدبًا وشعرًا وموسيقى ورقصًا وطعامًا، وقبل كل شيء، اسمًا. فلسطين، دائمًا، وأبدًا.

المساهمون