في القرن الثاني قبل الميلاد، ظهرت أولى قصائد الحب في الحضارة اليونانية، حيث تعامل أصحابها مع رغبات الجسد بذكاء يعتمد الاستعارة والحلم والرمز، وكانت موجهّة إلى قارئ لن يدركها إلّا إذا خاض التجربة ذاتها بأوجاعها ولذّاتها، التي تركت تأثيرها البالغ لدى عدد من شعراء الإمبراطورية الرومانية من خلال تحويلها إلى كتابات إيروتيكية صريحة، ولدى كتّاب مسرح نظروا إليها من زاوية التهكّم والسخرية.
ميلياغروس بن يوكراتيس كان أحد أبرز هؤلاء الشعراء الذين تنبّهوا باكراً إلى وصف علاقاته الغرامية التي عاشها في مدينة صور، ووثّقها في نصوص سمّيت "الأبيغراما" (وتعني شواهد القبور في الإغريقية) لا يتجاوز طولها الأربعة عشر بيتاً، ولم يجد حرجاً في تناول حياة اللهو والسهر بصراحة لا مثيل لها في عصره، لكنها تضيء في الوقت نفسه رحلاته بين مدن شرق المتوسط التي كتَب أنه ينتمي إليها جميعاً، وأنه ابن العالم الذي كان محصوراً بتلك الجغرافيا وفق ذاك الزمن.
لم تُترجم نصوصه من اليونانية القديمة بل عبر لغات وسيطة
يطرح هذا الانتماء وتعريف الشاعر لنفسه تساؤلاً مُهماً عن الثقافة الهلنستية التي رآها نتاج مؤثرات آرامية وفينيقية (كنعانية) ويونانية (تركيا واليونان حالياً)، لا صلة لها بأوروبا وادّعاء الانتساب الحضاري إليها، وتتجلّى المفارقة باحتشاد المكتبة الغربية بشروحاتٍ وترجمات لميلياغروس وغيره من الشعراء الهيلينستيين، مقابل مصادر شحيحة بالعربية عنهم، كما يلفت أستاذ التاريخ والباحث الأردني محمد علي الصويركي.
ويشير الصويركي في كتابه "الشاعر ميلياغروس بن يوكراتيس - أمير شعراء سورية في العصر الهيلينستي اليوناني - ابن مدينة جدارا – أم قيس" الذي صدر حديثاً عن وزارة الثقافة الأردنية و"دار ركاز"، إلى عدم وجود ترجمة مباشرة لشعر ابن يوكراتيس عن اللغة اليونانية، حيث يُقرأ عبر وسيط إنكليزي وفرنسي فقط.
ويقدّم المؤلّف في تقديمه إضاءة على الحضارة الهيلّينية التي قامت في رودوس وكيوس وكريت وغيرها من جزر أرخبيل اليونان حتى عام 344 قبل الميلاد، حين أسّس الإسكندر المقدوني دولة هيلينستية في الساحل السوري والمصري، وُحكمت من قبل أبنائها، في تمازج لغوي وثقافي وديموغرافي أيضاً.
يصنّف ميلياغروس ضمن المدرسة السورية التي ضمّت شعراء تلقوّا معارفهم في "جدارا" (أم قيس حالياً، وتقع شماليّ الأردن) التي تأسّست فيها جامعة احتضنت علماء المدن السورية الداخلية، وكانوا متأثرين بفلسفة مدرسة الإسكندرية، بشكل أساسي، بحسب الكتاب، الذي يستعرض أبرز شخصيات جدارا، ومنها الشاعر فيلوديموس والفلاسفة ويونومارس وثيودروس الجداري ومينيبوس، حيث أسّس الأخير مدرسة فلسفية حملت اسمه.
قامت المينيبية على فكرة المساواة بين البشر ومحبّة الآخر وتقديس العلم في جملة محاورات شعرية ونثرية اتخذت طابعاً هزلياً، اجتذبت ميلياغروس في صباه، لكن عائلته المختلطة كان لها في تشكيل شخصيته، وهو المولود لأب يوناني استوطن جدارا، وأمّ سورية، كما تورد المصادر التاريخية، وتوضّحها نصوصه كتابه الأول "ربّات البهاء أو الجمال".
في العشرين من عمرها، سيغادر بن يوكراتيس مسقط رأسه متوجهاً إلى صور، رغبة منه في الاطلاع على فلسفات المشّائين والرواقيين، وهناك وضع بعضاً من مؤلّفاته الفلسفية، وكَتب الأبيغراما التي ضاع منها الكثير وبقي منها حوالى مئة وثلاثين قصيدة تتناول جدالاته مع إله الحب (إيروس)، وتفصّل علاقاته مع عدد من النساء، وكذلك افتتانه بالغلمان جرياً على سلوك لم يكن مستهجناً خلال تلك الفترة.
بحث في شعره عن اللذّة المطلقة كما تهكّم من الوجود
كانت جزيرة كوس المحطّة الثالثة في حياته، استناداً إلى قصائد تكشف عن عشر نساء تعرّف إليهن في الجزيرة، إلا أن ثلاثاً كنّ الأقرب إلى قلبه؛ هيلودورا التي رحلت في مقتبل العمر، وزينوفيلا التي لم يحتمل كثرة عشّاقها، وديمو التي خانته مراراً وتكراراً، فقرّر أن يخلّد قصص الحب في كتاباته ويرحل عن الدنيا في الثمانين عازباً من دون زواج.
وتبرز تلك القصائد إخلاصه للشعر الذي جعله لا يلتفت إلى الأحداث السياسية في عصره، غارقاً في حياة بوهيمية، تصوّرها أشعاره التي خلت من مديح الأثرياء والوجهاء، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنه كان على درجة عالية من الغنى، كما يفسّر الصويركي، وهي تنسجم مع معتقداته الفلسفية الأبيقورية في بحثه عن اللذة المطلقة، وتهكّمه على الوجود.
بالقرب من قبره، سجّل ميلياغروس على شاهدٍ نصاً يقول فيه: "خفِّف الوطء، أيها الصديق، إذ يرقد بين الموتى الطاهرين، شيخ غمره النوم الأبديّ الذي هو مآل البشريّة، ميلياغروس بن يوكراتيس، الذي أوقد الصلات بين ’إيروس‘ و’ربّات الملاحة والفتنة‘، لقد بلغ مبلغ الرجال في صور ربيبة السماء، وأرض جدارا الطيبة، واحتضنته في شيخوخته كوس الحبيبة، مهد الميرويين (نسبة الى ميروبس عاهل كوس الذي تسمّى أهل الجزيرة باسمه)، إن كنتَ أيها الصديق سوريًاً، أحييك تحيّة سورية، وإن كنتَ فينيقياً، أحييك تحيّة فينيقية، وإن كنتَ يونانياً أحييك تحيّة يونانية، حيِّني بمثل ما أحيّيكَ به".
على ما تحويه هذه القصائد من أفكار تنبئ بشخصية الشاعر ومواقفه الصارخة تجاه الحب والوجود، ما شكّل صورة أوضح حول سيرته التي أعدّها المؤلّف، إلا أنها تتطلّب ترجمة أدقّ وتراكيب أجود قد تتحقّق إذا نُقلت عن اليونانية القديمة، حيث نقرأ في نص آخر "فلا أقسم بغدائر ’تيمو‘، ولا بخف ’هيليودورا‘، ولا بحذر ’ديماريون‘ الذي لا يزال يقطر عطراً، ولا أقسم بالابتسامة الرقيقة التي لا تفارق شفتَيْ ’أنتيكليه‘ ذات العينين النجلاوين، ولا بإكليل الزهور النديّة التي يتحلّى بها جبين ’دوروثية‘. نعم إني لا أقسم يا إيروس أنَّ جعبتك لم تعد تحوي شيئاً من سهامك المارقة، فقد استقرّت كلها في صدري".
ينادم ميلياغروس الإله إيروس في قصائد عدّة، يشكو فيها بألم لا يفارق الشهوة من عبثه بقلوب العاشقين، ويتصوّره كطفل رضيع جميل له عينان نفّاذتان، حلو المدامع، وهو أيضاً متوحش مخيف له جناحان يسابق بهما الريح، مزوّد بقوسٍ يصوّبه إلى القلوب، أو ثرثار وقح ساخر لا يأبه باللوم ولا يكترث به، فيقول: "إذا كنتَ تُحرق غالباً يا إيروس، الروح التي تحوم حولك كالفراشة، فهي ستهرب منك، لأنها أيضاً، أيها الماكر، لها جناحان، ويمكن أن تطير بهما".