عينٌ سينمائية توثّق الراهن اللبناني بأزماته المُركّبة، كذلك هو وثائقيُّ "بيروت في عين العاصفة" (75 دقيقة)، للمخرجة الفلسطينية اللبنانية مي المصري (1958)، والذي عُرِض مؤخّراً في جولة بيروتية، بتنظيم من "نادي لكلّ الناس"، شملت "متحف سرسق" و"بيت بيروت"، وغيرهما.
في البدء كانت الثورة... مشهدٌ أوّلي تلتقطه عدسة المصري في ميدان الشهداء، وسط العاصمة اللبنانية، في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، ثم تتواتر الأحداث صعوداً حتى نهاية الشريط، بمشهد قاسٍ تمثّل بانفجار مرفأ المدينة في الرابع من آب/ أغسطس 2020. وبين البداية والنهاية، حكايةُ أربع شابّات يُمثّلن التنوّع الذي ضمّته الانتفاضة اللبنانية، وكيف عبّرت من خلاله عن مدينة حيّة تعجّ بالاختلاف، أو بالأحرى تحيا به.
ومع نويل وميشيل كسرواني، الشقيقتين اللتين تُلهبان الشارع بأغنياتهما، يقتحم المُشاهِد ساحات التغيير، حيث تتيح كاميرا المُخرجة معاينة مدى الحماسة التي ألهبت الناس، بل نتعرّف عن كثب إلى طُرق إعداد الأغنيات المؤثّرة، والتي تعكس طموحات الناس. ومن خلالهما أيضاً، نُطلّ على جيل سابق، جيل والدَيهما، وما عايشاه من أفكار وأيديولوجيات سياسية، وبعضُ ذلك قاد إلى ما هو عليه الوضع اليوم.
مشاعر متضاربة عن بيروت لا يُمكن أن يُلخّصها الحبّ أو الكره فقط
ينتقل الشريط إلى حنين، الصحافية الفلسطينية التي تصنع أفلاماً عن حياة العشائر، والمخيّمات، وما يُسمّى بـ"الهجرة غير الشرعية". في سياق شخصي، تروي حكايةُ حنين أنّ الاختلاف يتأسّس أوّلاً في البيت، قبل أن ينتقل إلى المدينة، وهذا ما نُعاينه من خلال حديثها عن اختيارها أن ترتدي الحجاب، أمّا أختها فاختارت غير ذلك. ولكنّ ما يجمع الصحافية ببيروت أعقد من أن يَحتمل وجهاً واحداً: الحبّ أو الكُره، بل هو الاثنان معاً؛ خاصّة أنّ الأوّل قد لا يحتاج إلى تفسير أحياناً، في حين أنّ الثاني ينبع ممّا يُبادر به الآخَر في استنكار وجود امرأة محجّبة بين جموع المنتفضين. وفي هذا السياق، تشرح لماذا قرّرت أن تُشارك في تلك الانتفاضة، لا كصحافية فحسب، بل لأنّها لم تجد بين الموجودين مَن يعبّر عن حالها وفكرها وهويّتها، فقرّرت أن تفعل ذلك بنفسها.
أمّا النموذج الرابع، فقدّمته المصري من خلال العراقية لجين جو؛ وهي مصوّرة أقامت في بيروت لسبع سنوات، حيث شكّلت لها المدينة ملاذاً بعد أن فرّت من تجربة عنفٍ أُسري مريرة. لعلّ في اختيار شخصية غير لبنانية لتمثيل قضية حسّاسة في التاريخ السياسي المُعاصر للبلاد، جُرأة توازي ما بات مُتعارفاً عليه بـ"كسر حاجز الخوف"، حيث البطولة النسوية تستطيع أن تصنع فارقاً حقيقياً بالمعنى السينمائي، وهي أساساً مستندة إلى بطولة واقعية حدثت بالفعل أثناء الانتفاضة.
يُشار إلى أنّ هذا الشريط (2021)، هو الثالث للمخرجة عن العاصمة اللبنانية، بعد "بيروت جيل الحرب" (1988)، و"يوميات بيروت" (2005)، وقد أرجعت تركيزها على العنصر النسائي فيه، كما جاء في أحد تصريحاتها الصحافية، إلى كونه كان حاضراً بكثافة في حركة الاحتجاجات، كما أنّه جسّد بالفعل معنى الإبداع والفنّ.