الآلية التي تحكم الحياة في الألفاظ، أي الصدور عن واقع لغوي مستقل، واحدة. نجدها في الخطاب الصادر عن شاعر أو خطيب أو تربوي أو سياسي أو رجل دين، أو عن إنسان تلقّى تعليمه على يد معلم مدرسة أو صحافي أو مذيع على شاشة تلفاز.
في عالم الشعر، الذي نجده أكثر تجسيداً لهذه الآلية، يوجد الماضي الماثل في الألفاظ، أو لنقل هناك ما يشبه معجماً شعرياً، أو مهاداً، تكرّس كنسق لغوي وحسي وتصوري، وأصبح وسيطاً بين الإنسان وعالمه الملموس، أو أصبح بديلاً بالأحرى. وهناك إنسان يتمثل هذا الماضي ويعيد تكراره في حالات الفرح والسرور والحزن والكآبة، وفي مواجهة الأسئلة، ما كان منها وجودياً أو أدنى مستوى. فلماذا؟
الشاعرُ الحديث بشكل عام لا يقلد أحداً أمْرَ نفسه وشعره؛ هذا ما يقال لنا وسمعناه مراراً وتكراراً، ولكننا نجده يتبني معجماً آخر، وواقعاً لغوياً آخر. صحيح أن هذا المعجم والواقع قد لا يكون مما اعتاده المستمع أو القارئ، إلا أنه يخضع لآلية طقس يَمْثلُ فيه ما يشبه ماضي أطلال ورواحل الشاعر التقليدي أيضاً، أي أنه يتبني مهاداً مفارقاً. ومع أنه يلجأ إلى أطلالٍ ورواحل من نوع مختلف، إلا أنه يظل يصدر عن واقع لغوي مستقل عن أي حياة معيوشة.
المفارقة هي أن الجمهور المعاصر بعامة يظل في توجهه أقرب إلى صاحب الناقة والأطلال، وأقل احتفاءً بشاعره الحديث، لأن المهاد الذي يصدر عنه شاعره التقليدي هو ذاته مهاده المحفوظ الذي نشأ عليه وتلقاه في المدارس والجامعات. إنه جمهور يعزز خطاباً ما، ولا يستطيع رؤية عالمه إلا عبر نوافذه. لسبب جوهري استعصى إدراكه على النقاد والدارسين حتى الآن، وهو أن الجمهور يشعر، في ظل سطوة المهاد الشعري، أن الوقوف على الأطلال الذي تصدر قصائده، لم يكن للبكاء والندب وتذكر الراحلين والموتى، بل لأن الشاعر يحيا حين يقف أمام الأطلال ويتذكر؛ وكأن في هذه الوقفة تأكيداً على أن لنا في الذكرى حياة. ولكنها تظل حياة في الألفاظ بالطبع.
جزء من جماعة وزمن ومكان وبالضرورة أداة حوار وحياة
قد تفسر طقس الواقع اللغوي المفارق مقولة عالم اللسانيات السويسري فردينان دو سوسير (1857-1913) عن استقلالية اللغة كنظام. تلك المقولة التي شاعت وتغلغلت في الثقافة الغربية، ووصلت أصداؤها إلى الثقافة العربية. عماد هذا التفسير أن معاني العلامة اللغوية، أي "التسميات"، لا تصور الأشياء في العالم، وما يحدد المعنى هو موقع العلامة في نظام "المسمّيات" المستقل، ولا توجد أي علاقة مباشرة بين فعل التسمية والمسمّيات. من هنا جاءت أقاويل عدد من كتاب ما بعد ـ البنيوية التي استورد العرب طرفاً منها، وجاء تشديدها على أن علاماتنا الألسنية تنشأ في الوضعية الاجتماعية التي تتخللها علاقات سلطوية، أي هي إنشاء أيضاً، ولكن تحت سطوة سلطة.
ويضيفون إلى هذا، إننا لا نستطيع الخروج من عالم "المسمّيات" لنعثر على علاقاتها المباشرة بالواقع الخالص. وهكذا فإن تجاربنا مقيّدة تقييداً لا خلاص منه بالإنشاء اللفظي للأحداث، وهذه الأحداث من جانبها لا تأخذ معناها إلا عبر هذا الإنشاء.
الفرق بين التنظير الغربي والممارسة العربية هو أن الأول يتحدث عن إنشاءٍ يدعونا إلى رفضه بوصفه كذلك، أو يقول إن لا خلاص منه، بينما يتحدث الثاني عن الإنشاء بوصفه "واقعاً"، ووحيداً ممكناً، تقدّس اسمهُ مرة واحدة وإلى الأبد، أنشأه "الأوائل"، أي أناس الماضي في الوعي الثقافي الذين يسعى "المتأخرون"، أي أناس الحاضر، إلى اللحاق بهم، وفق مبدأ "نتذكر فنحيا" ذاته. ولكن الجامع بين الموقفين، الغربي والعربي، هو قطع اللغة عن مسار الممارسة الاجتماعية، سواء في دراستها كظاهرة أو استخدامها كأداة تعبير.
هنا تأسيس لاستقلال ظاهرة اللغة، ومحو مرجعية معاني الكلمات خارج النظام اللغوي أو نظام اللسان بالأحرى. ولكن ثمة مرجعية، ليس للمعاني بل للحياة أيضاً، في الممارسة العربية، ولكنها موجودة في مكان غائبٍ لم يعد معيوشاً.
ومن هنا جاء التشبث بذلك "الواقع" الغائب الذي تحول إلى واقع لغوي مستقل. ففيه كان العربي ينتصر على أعدائه، ويجد حلولاً لمشكلاته، وكان الشاعر والخطيب والعالم والحاكم شخصيات فاعلة متمكنة، وكان العالم هامشاً على أطراف وجود مركزي ينعم فيه العربي بفكرة أنه السيد المتسيد على الكائنات، فأي "واقع" أروع من هذا؟
أمرُ هذه المرجعية لا يختلف عن أمر المرجعية المفقودة في نظام "دو سوسير" اللساني، فكلاهما لا يؤمن بمرجعية واقع معيوش وقائم، أو لا يريد لهذا المعيوش أن تكون له صلة بالنظام اللغوي. فالمعيوش العربي الراهن مؤلم، عالمه مهمش لم يعد مركز العالم، يحتاج الدخول في التجربة وآلامها، بينما "العالم" الآخر المفقود، والماثل في المهاد اللغوي، عالم ينتفي فيه الألم، وتنتفي الهامشية، ويصير فيه الانسان مركزاً وسيداً بلا تجربة ولا معاناة الولادة مجدداً.
من هنا جاء الدخول في فضاء "الحياة في النص"، وكأن ما بعد تلك الحياة، أو كأن ما بعد تلك الجنة، توقف عن الوجود، أو أصبح ظلاً لأصل قائم يلقيه دائماً وأبداً، يرجع إليه الشاعر والخطيب ورجل الدين والأخلاق، ويرجع إليه المتلقي أيضاً.
وبالعودة إلى صناعة الخطاب الشعري العربي، التقليدي منه والحداثي، وكل الخطابات التي تماثله في تجلياته، نجد أنها لا تقوم على المخزون المشترك الآخذ في الصيرورة، بل على مخزون صار محدّداً في المعجم الشعري واللغوي. هو لدى التقليدي ما خلقته ممارسة اجتماعية معينة في الماضي، ولدى الحداثي هو إيمان شبه صوفي، بأن الواقع اللغوي هو الأصل، وعلى الحياة، وكل حياة ممكنة، أن تحاكيه أن تتذكره وتمثله والا فشلت في أن تكون.
المخزون الذي يقولني ليس مبدأ وجود أو قدراً لا مهرب منه
هي ممارسة طقسية إذاً، كما هي كل ممارسات شعائر فقدت وظيفتها منذ انحلال وانقراض التشكيلات الاجتماعية التي أبدعتها. وفي ممارسة الطقس لا يسأل الممارس عن صلة الطقس بحياته أو بحياة من حوله، بل ينصرف همه الى إتقانه بحرفية إرضاءً للأسلاف أو للجماعة الغارقة في الطقس. وفي هذا يتساوى التقليدي والحداثي فكلاهما طقسي في ممارسته.
إنه الفضاء اللغوي مرة أخرى، ذلك الفضاء الذي يمتصّ كل حياة ممكنة، ويصبح التفكير خارجه محالاً. ويذكرني هذا فوراً بتعبير الفرنسي جاك ديريدا (1930-2004) الشهير: "لا شيء خارج النص". هذه المقولة لا تعني فقط الاستنتاج البالغ التبسيط بأن تفسير النص المكتوب لا يأتي من خارجه، بل تعني في العمق أن الحياة نفسها، حياتنا وحياة الكائنات الأخرى، لا سبيل إلى أن توجد خارج قولها، أو "تنصيصها". وبما أن التنصيص لم يعد يمتلك مؤلفاً، فإن ثمة نصوصاً أو خطابات تقولنا. أي أننا "لا نقول" حين نقول، وإنما تقولنا خطابات الماضي أو الحاضر التي صنعتها علاقات سلطة.
ولكننني أفهم هذا بصفته نقداً يفكك، أو يهدم بالأصح، الخطاب الشائع المهيمن ويبرز إلى العيان قوانين صناعته الخفية أو التي تستبطنه، ولن أفهمه بوصفه إقراراً بمبدأ وجود الخطاب واللغة والنص، أو بمبدأ ملازم لكل خطاب بشري.
المخزون والمشترك الذي اتخذ هويةً كلية، المخزون الذي يقولني ليس مبدأ وجود، ليس قدراً لا مهرب منه. هناك وجه آخر، أعني الخطاب الفردي الذي لا يكتسب معنى إلا بالنسبة إلى صاحبه. هذا الوجه الآخر ليس منفصلاً عن المشترك والاجتماعي إلا مؤقتاً وفي لحظة إبداعه، بدليل أنه يمكن شرحه بمفردات الخطاب المشترك، ويمكن أن يحلّ محل المشترك ويقوم بوظيفته.
لاحظ شاعر فنلندي معاصر اسمه كاي نايمين أن "قراءة نص مؤلف فرد تبعثه حياً". ويشبه انبعاث حياة من هذا النوع ما يحدث حين تنبثق من بين العلامات اللغوية حياة منسية أو حياة ما نسيناه في غمرة انشغالنا بالنصوص الميتة، أي تلك التي هي مجرد تسميات ومسميات بلا مرجعية.
هذه ظاهرة انبثاقية للعلامات لا يعرفها الخطاب المشترك المهيمن الذي يقولنا حين نقول. هنا ننتقل من فضاء الحياة التي تحوّلت إلى نص ميت إلى فضاء الحوار. العلامة أو الكلمة أو الإشارة تمتلك خاصية حوارية، ومن هنا ربما عنفها الرمزي الذي انشغل به الفرنسي بيير بورديو (1930-2002)، ومن هنا ربما قدرتها على إيجاز العلاقة بين الأرضي والسماوي في نظر الشاعر الصيني لو تشي، القائد الذي أعدم في عام 303 ق.م. هي ليست أداة مصمتة منغلقة بلا مؤلف أو قارئ إلا حين تكون جزءاً من مخزون تحوّل إلى أصل وصار كلُّ ما بعده ظلّاً له. أما حين يصدرها شخص هو جزء من جماعة وزمن ومكان فهي أداة حوار بالضرورة، أي أداة حياة.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين