أصبح من الطبيعي أن ينشر المشاهير سيَرهم الذاتية. يلقى هذا النوع من الكتب، اليوم، إقبالاً واضحاً؛ فهو يكشف للقرّاء كلّ ما يتعلّق بخصوصيّات صاحب السيرة: نفسيّته وعُقَده وآماله، طفولته ومعارفه وعلاقاته، نجاحاته وفشله. هكذا، صرنا اليوم أكثر إدراكاً لأهمية الخلفية، وظروف النشأة، والحياة العملية والصدمات، في تشكيل حياة الفرد، وفي صوغ قراراته وطبع نتاجه بطابع يميّزه عن غيره ويمنحه الألق الذي يجذبنا إليه. كما صرنا أقلّ تحرّجاً من البحث في حياة الآخرين، حتّى في أدقّ خصوصيّاتها، اعتقاداً منّا بأن ذلك يقرّبنا أكثر من دواخلهم، ويجعلنا نفهم فهماً أعمق لتصرفاتهم وردود أفعالهم ودوافعها المخفية، ما يسمح لنا بالحكم على نوعية وجودة إنتاجهم الأدبي أو الفني حكماً أكثر واقعية وأكثر ارتباطاً بسياقه.
كانت الأمور مختلفة طبعاً في الماضي؛ فلا الدافع الشخصي ولا الميل الاجتماعي إلى التسجيل وحفظ الذكرى، ولا توافر أدوات التسجيل، كان على ما هو عليه اليوم. وبالتالي، فإنّ ما خلّفه لنا أبناء القرون الوسطى من ذكريات وتراجم مختلفٌ جداً عمّا نعرف وننتظر في مجال السيرة الذاتية، وأقل كثيراً ممّا نحبّ ونرغب، وأصعب علينا فهماً وشرحاً وتعليلاً. ليس معنى ذلك أن أبناء القرون الوسطى لم يكن لديهم اهتمام بتسجيل سيَر حياتهم أو الأحداث التي مرّت بهم، ولكن دوافع التسجيل ومجاله ومداه كانت مختلفة عما عهدناه في حياتنا المعاصرة. فكتّاب السيرة الذاتية القروسطيون كانت لهم أهداف أخرى من توثيق حياتهم، ومناهج مختلفة في إيراد أخبارها؛ أهدافٌ أكثر ارتباطاً بشروط المعيشة والعمل والصعود في المجتمع وأقل ارتباطاً بالتعبير والتذكّر والفضفضة. وكانت لديهم مفاهيم مختلفة عن الشخصية الفردية وسلطة الكاتب وحقوق الجماعة والحياة والفناء والتذكر، وهي كلّها مفاهيم شهدت تجولاً جذرياً في مدلولاتها في العصر الحديث.
تنطبق هذه الملاحظة على الغرب المسيحي والشرق المسلم في آن، حيث تَشارك كتاب الطرفين في محاولة إسدال ستار من الخفَر على التفاصيل الشخصية عبر بعض أدوات الصنعة الكتابية. ولكنّ كتّاب السيرة المسلمين القروسطيين انفردوا ببعض الخصائص النابعة من دينهم وتراثهم الأدبي ومواضعاتهم الاجتماعية المميزة وأدوات صنعتهم الكتابية. بشكل عام، تميّز كتاب السيرة المسلمون القروسطيون بالإطار القدريّ المؤمن بالقضاء لسردهم، مع قليل اهتمام بالبحث عن خلفيات الحوادث التي يروونها. فسيَرهم مقولبة وجامدة إلى حدّ كبير، تحتوي القليل من المعلومات الشخصية والكثير ممّا يمكن أن نسمّيه السجل العام للشخصية، وهي تفصح عن عقليّة قنعت من الإخبار بالظواهر وعفّت عن النبش والتمحيص والتساؤل.
سمعة الكاتب وشهرته اعتمدت على التزامه بقواعد الطبقة
لا يعني هذا الحكم العام، والمعمّم بحقيقة الأمر، أن كتّاب السيرة المسلمين القروسطيين لم يعتقدوا بوجود علاقة أو علاقات بين خلفيّة الكاتب وبين إنتاجه المكتوب. على العكس تماماً. ولكنّهم نظروا إلى هذه العلاقة من منظور الخلفيّة العائلية، والمذهب، والدراسة، والشيوخ الذين درس على أيديهم الكاتب المعنيّ، والوظائف التي تقلّدها، والأعيان الذين خدمهم، قبل الوصول إلى إنتاجه الفكري والعلمي، من دون أخذ الطباع والمشاعر والخيارات الشخصية بعين الاعتبار.
وبمعنى آخر، فإن إنتاج الكاتب كان من وجهة نظرهم محكوماً بمحيطه الثقافي والعلمي والمهني، مع قليلِ تأثيرٍ لشخصيته وطباعه وميوله. فسمعة الكاتب وشهرته اعتمدت أساساً على التزامه بقواعد الطبقة أو الجماعة أو المهنة التي ينتمي إليها، وعلى كيفية صعوده ضمنها وحفاظه على أصولها واحترامه مواضعاتِها. هذا هو على الأقلّ الانطباع العام الذي نجده عند قراءتنا للسير الذاتية القروسطية، مثل سيرة ابن خلدون (1332- 1406) في كتاب "التعريف"، الذي أرّخ فيه لحياته العلمية والوظيفية وللقاءاته بكبار عصره؛ وسيرة السيوطي (1445 - 1505) في كتاب "التحدّث بنعمة الله"، حيث أورد مسيرته العلمية وترجمة أبيه وسردَ مؤلفاته وشيوخه ومنجزاته، ومدحَ تفوّقه في العلم.فنحن لا نجد في مثل هذه السير إلا القليل النادر من الإشارات إلى الحياة العائلية، أو إلى أمّهات وأخوات وزوجات وبنات وسراري كاتب السيرة (ابن خلدون يورد خبر غرق أسرته في ميناء الإسكندرية وموت أفرادها أجمعين في خبر عابر واحد). ولا نصادف عموماً إلا بعض الملاحظات العابرة عن السلوك الشخصي. فقد استعمل كتّاب السير أطراً محدّدة، ضمنت لهم التستّر بالسرد على الإفصاح عن حقيقة مشاعرهم، على الرغم من أنهم أحياناً تجاوزوا هذه القواعد الكتابية والسردية وسمحوا لعواطفهم وآرائهم بالظهور، عبر إيرادهم لحوادث معينة أو تعليقهم على رأيٍ ما.
في مثال نادر، يورد ابن خلدون في "التعريف" غرق عائلته
من هذا المنطلق، فإن أيّ سيرة لشخصية قروسطية تتعرّض لبعض مظاهر حياتها الشخصية جديرةٌ بالاهتمام والاحتفال، لندرتها واختلافها عن مئات السيَر التي تقتصر على النواحي المدنية والمهنية العامة، والتي تقدم لنا صوراً باردة، محايدة، ووحيدة البعد لأصحابها. أما هذه السير غير العادية والنادرة - كسِيرة الفارس الشيزري أسامة بن منقذ، في "كتاب الاعتبار"، وسيرة المؤرخ الدمشقي أبي شامة المعروفة بـ"الذيل على الروضتين"، اللتين تتطرقان للحياة الخاصة لكاتبيهما - فهي تقدم لنا صوراً معبّرة وحسّاسة عن الكثير من الأشخاص المهمّين في حيات الكاتب، من أهله ومعارفه وأصحابه. فالأول، أسامة بن المنقذ، كان سليل عائلة نبيلة سيطرت على قلعة شيزر ومحيطها شمال سورية، وعمل في بلاطَي السلطانين الكبيرين اللذين عاصرهما، نور الدين وصلاح الدين، وخدم في جيوشهما، وشهد العديد من المعارك مع الصليبيين، وصاحب بعضهم ونقل لنا نتفاً من ملاحظاته عنهم.
والثاني، أبو شامة، كان شيخاً وفقيهاً مجدّاً لم يصعد عالياً في المناصب ولكنّه سجّل، بتدقيق، تفاصيل الحياة في دمشق، وحياته من خلالها، في فترة من أهم فترات تاريخها، حين تعرضت للغزو المغولي وانتقلت السيطرة عليها من الأيوبيين إلى المماليك عقب معركة عين جالوت الحاسمة عام 1260 وصعود الظاهر بيبرس إلى سدّة الحكم.
تضيء هاتان السيرتان النادرتان والمتميزتان - وإن كانتا لا تكفيان لتكوين صورة متكاملة عن نفسيّة كاتبيهما - بعضَ الجوانب الإنسانية المؤثرة عن علاقتيهما بمحيطهما، وتسمحان لنا بالولوج قليلاً إلى حياتهما الخاصة والعائلية. وهما بذلك تفتحان لنا - وربما كان هذا أهمّ ما فيهما - نوافذ على مشاعر كانت ستبقى مجهولة، تضفي على سيرة هذه الفردين الفذين أبعاداً إنسانية تجعلنا نشعر بهم، نتعاطف مع آلامهم، نُسَرُّ لنجاحاتهم ونحزن لمصائبهم، على الرغم من بعد الزمن الذي يفصلنا عنهم.
* مؤرّخ معماري مقيم في الولايات المتحدة