في مشهد من فيلم "ميكروفون" (2010) لكاتبه ومُخرجه أحمد عبد الله، يحاول أحد العاملين في مؤسّسة ثقافية مستقلّة مساعَدة بعض الشباب من مغنّي الراب، الذين تلفظهم المؤسّسات الثقافية الرسمية، بتنظيم حفل "ملفّق" وعلى عجل في الشارع؛ ليس شارعاً عمومياً أو رئيسياً، إنما هو فضاء خلفي بين مجموعة من البنايات في منطقة وسط البلد بمدينة الإسكندرية.
لا يكاد الحفل يبدأ حتى تظهر مجموعة من الشباب ليعترضوا على صوت الموسيقى، وحجّتهم أنّه يشوّش على المصلّين في المسجد القريب؛ وهو ليس مسجداً كذلك، إنما هو مساحة مشابهة في الفضاء الخلفي نفسه، "لُفّقت" بذات العجلة وفُرشت بمجموعة من الحصر، واعتُبرت مسجداً للصلاة. تظهر الشرطة في هذه اللحظة أيضاً ويوقَف الحفل لأنه بلا تصريح.
لمن الشارع إذن في مثل هذه المدينة؟ مَن له الحق في الفضاء العام فيها، وعلى حساب من يكون هذا الحقّ؟ مثل هذه الأسئلة يطرحها الباحث المعماري، نزار الصياد (1956)، في كتاب "المدينة الأصولية؛ عن ممارسات التديّن والتطرّف وآثارهما على العمران"، والذي قَدّمه في لقاء عُقد الأحد الماضي في "غاليري ضيّ" بالقاهرة.
مَن له الحق في الفضاء العام، وعلى حساب من يكون هذا الحقّ؟
الكتاب، الذي شارك فيه - إضافة إلى الصياد - ثلاثة عشر باحثاً وباحثة، تعود فكرته، كما يقول، إلى حوار مع إحدى طلبته في قسم التاريخ العمراني بجامعة كاليفورنيا؛ حيث لاحظا معاً أنّ "أنماط الفصل والإقصاء التي تزايدت في بعض المدن، كثيراً ما تتشكّل بناءً على ممارسات أو أنشطة دينية معيّنة". ونتيجة لهذا الانشغال، نظّم الباحثان مجموعة عمل وندوة علمية بعنوان "المدن والأصوليات"، جمعا فيها أبحاثاً متعدّدة التخصّصات؛ منها الأنثروبولوجيا، وتاريخ العمارة، والجغرافيا الحضارية، والتخطيط، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، والتاريخ العمراني. كلّ هذه التخصصات هي قوام الأبحاث التي تتوزّع على 12 فصلاً في الكتاب، والذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن "دار المرايا للثقافة والفنون" في القاهرة بتوقيع هالة حسنين، في حين صدرت طبعته الإنكليزية عام 2011.
يستبق الصياد أي حصر لمفهوم الأصولية بالقول إنّها ليست خاصّة بدين معيّن، بل إنها تعمل أحياناً تحت منظورات مدنية. وأبحاث الكتاب تعمل بالفعل على مروحة واسعة من المعتقدات والأيديولوجيات في الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية، وفي مناطق عدّة من العالم. يضيف صاحب "أشكال الهيمنة والعمران الاستعماري" أنّ سؤاله الرئيسي كان "متى تتحوّل ممارسات التديّن إلى عادات دينية إقصائية؟ وما هو دورها في تشكيل فضاءات المدن؟".
للوهلة الأولى، قد يَظهر بُعد الشُّقة ما بين الأصولية والمدينة، ولذلك يلجأ الصياد إلى تعريف طرفَي الموضوع كلّ على حدة، ثم في علاقتهما معاً. في تعريف الأصولية والأصوليّين يورد الصياد تعريفات عدّة أحدها ما يقدّمه قاموس "أكسفورد"؛ حيث الأصولية هي "الالتزام الصارم بالمعتقدات أو المذاهب التقليدية المنغلقة"، وفي "قاموس التراث الأميركي للغة الإنكليزية" هي "التمسّك الصارم بأيّ مجموعة من الأفكار أو المبادئ الأساسية"، ويؤكّد تعريف ثالث الأساس الديني للظاهرة باعتبارها "تجسيداً لحالة عنف مَرَضي". لكن ما يثير الاهتمام - بحسب الصياد - أنّ بعض التعريفات تقدّم وصفاً للأصولية في ضوء عنف الرأسمالية باعتبار الأصولية "شكلاً من أشكال الانحراف المفرط ينشأ نتيجة الهيمنة السياسية والاقتصادية".
يمنحنا التعريف الأخير مرونة لنفهم ما أشار إليه الصياد من دور تلعبه السلطة الحاكمة أيضاً في تشكيل الأنماط الإقصائية لفراغات المدينة، إذ لا تكون هذه القوى حصراً جماعات دينية هامشية، بل قد تكون سلطةُ الدولة نفسها سلطةً أصولية إقصائية، كما في الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب، وأوّلهما حول "الجغرافيا السياسية للتطرّف الديني" في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، حيث يبحث في ظاهرة نزوع الاستعمار العمراني المدعوم من الدولة (دولة الاحتلال الإسرائيلي) لإحكام السيطرة على الفضاء العمراني، وتحديداً في مدن بئر السبع والقدس والخليل، أمّا الفصل التاسع، وهو بعنوان "الأصولية تتصدّر المدينة؛ طالبان في بيشاور، باكستان"، ففيه تناقش مزجان معصومي كيف "استخدمت طالبان مدينة بيشاور كقاعدة لعملياتها، وقامت بفرض قواعد جديدة صارمة ذات دلالات دينية في الحياة العامة"، وذلك من خلال "هيئات دينية مختلفة تزرع وتفرض القيم والأعراف والنظام العقائدي والمنظومة التي تتبنّاها طالبان في وعلى المدينة والسكّان".
هل تحمل المدينة المعاصرة في طياتها أصولية كامنة؟
على ذلك، وكما نفهم من التعريفات السابقة، "إذا كانت الأصولية تصنيفاً مبنيّاً على أساس ديني - كما يتساءل الصياد - فما علاقتها إذن بالمدينة؟ يقتبس صاحب "اختلاق قاهرة القرون الوسطى" تعريفاً آخر للأصولية بأنّها "حركة عمرانية مناهضة لفكرة تفكّك النظم والعلاقات الاجتماعية المبنية على السلطة الفردية الأبوية وإحلالها بمبادئ الفردانية"، لكنه يعود فيستدرك على هذا التعريف قائلاً "لأنّ ممارسات الأصولية، وكما سيُثبت المشاركون في هذا الكتاب، تتغيّر من مكان لآخر، أصبحنا مهتمّين بطابع الحيّز الجغرافي الذي تخلقه الأصوليات المختلفة أكثر من اهتمامنا بما إذا كانت هذه الأصوليات ظاهرة عمرانية أم لا"، ثم يضيف: "من المهم أيضاً فحص احتمال أن تكون المدينة المعاصرة حاملة في طياتها أصولية كامنة".
تسمح لنا الملاحظة الأخيرة أن نفهم عدّة إشارات نابهة يلفتنا إليها الصياد، كقوله إنّ بعض هذه الصراعات حول المجال العام "ليست مجرّد معارك بين الأصولية والعلمانية، ففي كثير من الأحوال تكون هذه المعارك بين أشكال من الأصوليات المتناقضة"، وذلك مثلاً كما في تهديد المستوطنين الإسرائيليّين للدولة الإسرائيلية في الضفّة الغربية المحتلّة.
بين الحداثة والأصولية علاقة أقرب إلى التعامُل التجاري
إشارة أُخرى يقول فيها الصياد إنّ "من السذاجة الاعتقاد بأنّ الأصولية نشأت كفكر معارض تماماً للعالم الحديث أو لظواهره وتجلّياته المتنوّعة". ولتعضيد استنتاجه يستعير من تيموثي ميتشيل - أستاذ دراسات الشرق الأوسط في "جامعة كولومبيا" الأميركية، وصاحب كتاب "استعمار مصر" - ما سمّاه بـ"ماك جهاد" Mac Jihad، ردّاً على من وضع العالَمَين على طرفَي نقيض، (عالم الجهاد في مقابل عالم ماك)، حيث يعتبر ميتشيل أنّ "الجهاد لا يتناقض مع استعمال عالم ماك، وأنّ عالم ماك هو في حقيقة الأمر خليطٌ بين الاثنين".
لعلّها من المفارقات الساخرة في فهم طبيعة الأصولية المعاصرة، وهي المفارقة نفسها التي دفعت الصياد ليقول إن أحد تفسيرات هذه المفارقة أنّ العلاقة بين الحداثة والأصولية ربما هي أقرب إلى كونها علاقة "تعامل تجاري" من كونها "علاقة عدوانية".
هكذا تتوحّد الأصوليات تحت مظلّة الرأسمال، وتغدو المدينة بسببها مشهداً من إقطاعات ممزّقة، "تشكّله فضاءات عمرانية تخضع لأيديولوجية الاستثناء". تصبح المدينة خيالاً ووهماً بلا معنى، فالمدينة الأصولية، وهي مدينة حديثة بالمعنى المفاهيمي، "تعمل من خلال ترتيب الأماكن والأنشطة وفقاً لمنطق العصور الوسطى". إنّها "حداثة بروح العصور الوسطى... تكشف لنا المفارقات الكامنة في الحداثة: إقطاعيات بشعار الديمقراطية".