"نشيج الدودوك" لجلال برجس… أصداء السيرة

20 اغسطس 2023
جلال برجس في تونس
+ الخط -

"نشيج الدودوك" ("المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، 2023) هي سيرة روائية كما يسمّيها مؤلّفها جلال برجس، لا أظنُّ أنَّ تصريحه بذلك على غير طائلٍ، لا بدَّ أنَّ جلال برجس شاءَ أن نقرأها كذلك، وأن لا نفترض لها شيئاً آخر. لأمرٍ ما أراد جلال أن نقرأها أكثر من أن نقرأها كرواية. أرادنا أن لا نتمثّلها ونحشر فيها ذواتنا، أن لا تكون معركتنا، وبالتالي روايتنا، أن تبقى بالنسبة لنا أخرى عن شخص آخر. من يقرأ "نشيج الدودوك" يتلقّى هذا الإيعاز، ليست الأمكنة أمكنته ولا الناس ناسه. إنّنا أمام شخص يروي حكايته، وهي تخصّه وحده، وسنقرأها من هذا البعد.
 
جلال برجس الأردني من بدو الأردن وسيبقى ذلك البدوي تحت أعيننا راعياً، ستبقى له صحراؤه وسنبقى معه زمناً في هذه الصحراء، سنعاينها معه وسنرى كيف كانت عُزلته. سنراه وراء مخيّلته، ووراء مشاعره، وسنراه وهو يعاود الانتماء إليها، بعد أن أمضى طفولته متضجّراً منها. سنرى البدوي يعمل في الجيش مثله في ذلك مثل والده، ومثل لداته وأقرانه الأردنيين. 

سنراه في الجيش، ثم نراه يجاهد الحياة ويجاهد الفقر مع عائلته، ثم بعد أن سافر إلى إنكلترا وكيف تبدّت له، لكنّنا، لأمرٍ ما، سنبّقى معه في زيارته لأرمينيا، التي نسمع فيها نشيج الدودوك، والتي نشعر أنّه أحسَّ بها وطناً ثانياً، وربّما باديةً أخرى. سنقرأ ذلك بلغة سلسة على حافة الشعر، قبل أن نعلم أن برجس، مثله في ذلك مثل بقية الكتّاب العرب، بدأ شاعراً، ولسنا نعلم يقيناً إذا كان لا يزال، لكن أسلوبه في الكتاب يقرب من الشعر، ليس فقط في سلاسته التي تُشبه الغناء، وتملأ بأجراسها وإيقاعها السياق، لكن في تلك الدعوات المهيمنة على الشعر العربي، وعلى غنائنا بوجهٍ عام. هناك الحنين والغناء الاكتئابي ومديح الداخل والحب. 

سيرة تتناول وقائع حياة الراوي في إطلالات قصيرة وخاطفة

تنتهي الرواية تقريباً بعبارة "لكن الحياة بلا حب مثل بيت من ورق". تحمل الرواية ما يشبه هذه الدعوة في الحميمي من مواضعها، كما أننا لا نزال نسمع فيها نشيد الصحراء. لنقل إنَّ غناءً خافتاً يعمر السياق، لكنّنا قد لا نفهم من ذلك فقر النص من الوقائع، واحتفاله بالأماكن، وجذره الصحراوي إلا على هذا النحو. إنّها سيرة جلال برجس، بل هي في الأصح حنينه إلى سيرة، بل احتفاله بالسيرة، فالنص هو تقريباً هذا الاحتفال، بل يمكن القول إنه التغنّي بسيرة. ما يبقى من السيرة الروائية هو ذلك الحنين، هو ما بعد السيرة. إذ إننا كذلك، إذا حاولنا النفاذ إلى هذه السيرة، نضطر إلى العبور في صلبها، إذا شئنا أن نكون في مخاضها، وفي حلقاتها ووقائعها ومقوّماتها.

نشيج الدودوك - القسم الثقافي

 

نفهم من "نشيج الدودوك" أنَّ المؤلّف ابن عشيرة، وأنّه لأبٍ بدوي يخدم في الجيش الأردني، وأنّه مثل أقرانه أراد لابنه أن يكون عسكريّاً؛ الأمر الذي كان الابن يأباه، إلّا أننا مع ذلك نلتقي بالابن في الجيش، ونقع عليه وهو يعاني مع عائلته فقراً وعوزاً يحرمهما من الطعام، نقع على ذلك في فقراتٍ سريعة، لكنّنا مع ذلك لا نقرأ، لمن يمدح الحبّ هكذا، أي واقعة حبٍّ صريحة. نراه ربَّ عائلة، لكنّنا لا نعرف كيف بناها. قد نجد إشارات خافتة إلى نساء، كتلك الأرمنية قوهاش، لكننا لا نجد مع ذلك أي واقعة حب أو علاقة مع امرأة.

سنعثر على الأب العسكري والأم وحتّى الجدة المعمّرة، لكنّنا مع ذلك لا نقع على معركة الابن داخل عائلته، بل إنّنا لا نتعرّف جيداً على شخصيات العائلة، لولا استثناء هو العم عزيز، الذي وحده يشكّل شخصيّة روائيّة في العائلة. سنقرأ مع الراوي، مع جلال نفسه، في كتب أبرزها ثلاثة: "الغريب" لـ كامو، و"موسم الهجرة الى الشمال" وكتاب رسول حمزاتوف عن موطنه داغستان. ليس بين الكتب الثلاثة رابطة، فجلال يتبنّى انتقادات لـ"غريب" كامو، تدور حول مقت بطله ميرسو، وكامو من أمامه، للعرب. 

لا نفهم لماذا انتخب هذه الكتب التي، في توالي ذكرها، تبدو وكأنّها من أبطال الرواية، بل أبطالها السرّيون. يتغنّى جلال بكتابي الطيب صالح ورسول حمزاتوف، ويبدو أن في امتداحهما ما يشبه العصبية التي حكمت نقده المُستعاد لـ كامو. تحضر هذه الكتب حضور الصحراء وأرمينيا، إنّها أيضاً ما بعد القراءة والتغنّي بها. طوال الرواية لا ينفك برجس يتكلّم عن موسيقاه الداخلية، لكنّنا نقع مرّة واحدة على الحديث عن عزفه على العود وجمال غنائه. حطم الأب البدوي العود الأول لولده، لكنّنا ننتظر عبثاً سياقاً واقعياً لتلك الهواية. نحن هكذا نعثر على وقائع حياة الراوي في إطلالات قصيرة وخاطفة. لكن مدى هذه الحياة وأصداءها، والباقي من رجعها في البال والنفس، هي ما يشكّل هذه السيرة، وما يجعل النص أغنية لها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون