لطالما حظيَت المئويات باهتمام خاص، ولا سيما الآن مع الذكرى المئوية لـ معاهدة لوزان؛ حيث جرى توقيع معاهدة سلام بين الأتراك و"الحلفاء" قبل مئة عام، بعد ثمانية أشهر من الهدنة الموجعة في "قصر رومين" المبني على طراز عصر النهضة على ضفاف بحيرة لوزان السويسرية.
كَرّست "لوزان" صفقة "تبادل السكّان" بين تركيا واليونان، والتي جرى توقيعها في 30 كانون الثاني/ يناير 1923 وبدأ سريانها في الأوّل من أيار/ مايو 1923؛ حيث فُرضت الهجرة القسرية على حوالي مليون ومئتَي ألف من الروم الأرثوذكس من أراضي الأناضول نحو الأراضي اليونانية. وفي المقابل، هُجّر ما يقارب أربعمئة ألف من المسلمين من الأراضي اليونانية إلى الأراضي التركية.
الغريب أنّ اقتلاع هؤلاء الذين عاشوا معاً لقرون من أرضهم، ونفيهم نحو الطرف الآخر من بحر إيجه، وزجّ فكرة إنشاء دولة قومية في عقولهم، حيث يمكنهم من خلالها تحقيق مصير سياسي ما، بدت فكرة منطقية لكلا الطرفين في ذلك الوقت. وبالتالي خضع الأهالي في الجانبين إلى بنود المعاهدة، من دون أخذ آرائهم بعين الاعتبار، ومن دون موافقتهم، ومن دون مراعاة عرقهم أو لغتهم (كان الدين وحده سبباً كافياً للتهجير).
ليسوا أوّل ولا آخر من يُطرَد من أرضه بسبب معتقداته
وما لبث أن حَوّل "مؤتمر السلام" حياة هؤلاء المُهجريّن إلى مشهد غير إنساني ومأساة كبيرة انتقلت من جيل إلى جيل. دفع هؤلاء الناس الثمن مقابل هذه المعاهدة التي كان "هدفها" المعلن السلام ووقف سفك الدماء، والتاريخ هو بمثابة معلّم لديه القدرة على كشف الحقائق المُرّة. وما أعنيه أنّ هذه القصّة الحزينة لهؤلاء المهجَّرين، ليست بالقصّة الجديدة، إنها في الحقيقة "نفس القصّة القديمة" التي نعرفها حقّ المعرفة، فهُم ليس أوّل ولا آخر فئة تُطرَد من أرضها بسبب معتقداتها، وحتى في عالمنا "الحديث"، حيث تُدَّعى حالة من التقديس لـ"حقوق الإنسان"؛ ما زلنا نرى نفس القصّة القديمة تُعاد أمام أعيننا. ماذا تكون تلك العبارة الشهيرة؟ الإنسان حيوان مفكّر! حيث تكمن إنسانيتنا في فهم معاناة هؤلاء، وفي المقابل تكمن وحشيتنا في قدرتنا على اقتراف هذا الفعل المفعَم بالشرّ بحقّهم مراراً وتكراراً.
انقلبت حياة هؤلاء الناس رأساً على عقب، في ليلة وضحاها، بعدما حلّ السخط عليهم، وخسروا كلّ ما كانوا يملكونه. "خُذوا ملابسكم واذهبوا". لم يكن بإمكانهم السؤال لماذا. وجدوا أنفسهم على الفور في غمار رحلة شاقّة وبحوزتهم ثلاث أو خمس قطع من أشيائهم، كانوا قد تركوا جميع ممتلكاتهم وراءهم، ذكرياتهم، ومتاجرهم، حِرفهم وفنهم وراء ظهرهم، وبعضهم فقد أطفاله أثناء الرحلة. ماتت أُمهات وآباء وجدّات وأجداد في الطريق. أُلقيت جثامينهم من السفن حتى لا تنتقل الأمراض. لم يحظوا حتّى بقبور.
وبعناية الله وحدها وصل معظمهم إلى الضفّة الأُخرى لبحر إيجة، ليجدوا أنفسهم غير مقبولين ومميَّزاً ضدّهم في المكان الجديد. فمَن كان تاجراً من بينهم أو ذا حرفة وجد نفسه في وضع اقتصادي بالغ السوء، ومَن كان لديه قطيع أغنام فرّ من دون قطيعه. كان كلا الطرفين بائساً في جميع الأحوال. لك أن تتخيل هذا الوضع الفظيع: الذي لا يجيد التركية يُبعث نحو تركيا، والذي لا يجيد اليونانية يجري إرساله نحو اليونان. وبهذا ظلّوا عاجزين عن الكلام مع محيطهم الجديد. لقد جرى استبعادهم ونفيهم، والأسوأ من هذا، لقد أصبحوا منسيّين في أوطانهم. ظلّ بعضُهم يردّدون طوال حياتهم: "سأعود لأرى مسقط رأسي يوماً ما".
لكن القوانين والبنود كانت واضحة للغاية، لا يمكن العودة دون الحصول على إذنٍ من الدولتين، وهذا الذي لم يحدث منذ مئة سنة. لقد ماتوا قبل أن يتمكّنوا من رؤية أوطانهم مرّة أُخرى. لقد سُحقت ذاكراتهم لينسوا أنّهم قد عاشوا معاً لقرون. جرى تعليم وحثّ الجيلَين الثاني والثالث في المدارس على كره الآخر من كلا الطرفين. لقد مُحيت الذكريات وشُوّهت، لكنّها، للمفارقة، تعود لتنمو من جديد، وإليكم هذه الحكاية.
يجد المهجَّرون من الجيل الثالث والرابع أنفسهم في هذه الصور
ثمّة رجلٌ اسمه حمزة رستم جعل هذه الذكرى حيّة ربما كما لم يجعلها أي مهجّر آخر. حمزة بِك. وفي بعض الأحيان، للحديث عن شخص ما، من الواجب أن نتحدّث عن شخص آخر، لذلك، دعوني أبدأ ببهاء الدين بِك؛ بهاء الدين رحمي بيديز (1875 - 1951)، وهو من أوائل المصوّرين المسلمين الأتراك المعروفين، وقد خَلَّد كريت بمئات الصور والبطاقات البريدية في استوديو تصوريه الفوتوغرافي الخاص الذي أسّسه في الجزيرة اليونانية عام 1897، ليقوم بعدها بنقل إدارة متجر تصويره، الذي كان يديره حتى عام 1908، إلى حمزة رستم - الذي كان يعمل في الاستوديو في ذلك الوقت- مع جميع الصور وبطاقاته البريدية، ليغادر بهاء الدين إلى إسطنبول.
وُلد حمزة رستم (1872 - 1971) في مدينة هيراكليون بكريت. وبسبب الصراعات اليونانية العثمانية التي بدأت في جزيرة كريت في نهاية القرن التاسع عشر، استقرّت عائلته في الأناضول التي وصلت إليها عبر بودروم. وبينما كان حمزة رستم يواصل تعليمه هناك، جرى اعتقاله بعد فترة وجيزة من انضمامه إلى حزب "تركيا الفتاة". ولأنّه كان طالباً عسكرياً، اكتفي بنفيه إلى فزّان في ليبيا. وحين علمت عائلته، استطاعت تهريبه مع بعض قيادات "تركيا الفتاة" في قارب في ميناء إزمير. وبعد سلسلة من المغامرات والأقدار العجيبة، عاد رستم إلى وطنه كريت من جديد، وبعد فترة وجيزة، بدأ العمل كمتدرّب في استوديو التصوير الفوتوغرافي لبهاء الدين.
كان اليونانيون الأرثوذكس والمسلمون يعملون معاً في إستوديو التصوير هذا بشكل طبيعي. كان حمزة رستم مسؤولاً عن محلّ التصوير الذي تولّى إدارته بين عامَي 1908 و1925. بعدها أصبح من الصعب البقاء في كريت للأسباب المعروفة. لذا قام بخطوة غير مسبوقة تشبه "التبادل السكّاني"؛ حيث نقل متجر التصوير إلى إزمير مع موظّفيه ومواده وصوره وبطاقاته البريدية. وهكذا هاجرَت ذاكرة كريت وبهاء الدين ووثائق اليونانيّين والمسلمين الذين عاشوا في كريت، لكنها بقيت في أيادي أمينة.
بالطبع، نال حمزة رستم وعائلته حصّتهم من الآلام التي تركتها صفقة "التبادل" (التهجير القسري). لكن، رغم كلّ هذا، استمرّ متجر التصوير الفوتوغرافي الذي جرى افتتاحه في سوق إيمرلار بإزمير في العمل لسنوات من دون توقّف، أي أنه استمرّ في خلق ذاكرة سكّان إزمير وذاكرة المهجَّرين. أصبح بمثابة عِرق نابض ومدرسة للتصوير في إزمير.
وعلى الرغم من أنّ السنوات جعلت من الصعب الاحتفاظ بهذه الذكريات مجتمعة، إلّا أن مَرْت رستم، حفيد حمزة رستم، اضطلع بمهمّة جمع الصُوَر والبطاقات البريدية - المنتجات الملموسة لهذه الذكرى - بدءاً من إرث عائلته، وبات يمتلك اليوم مجموعة مهمّة من الصور شاركها مع "العربي الجديد" هي وقصّة جدّه في الذكرى المئوية لاتفاقية "تبادل السكّان".
كما بادر مَرْت رستم إلى تأسيس "متحف حمزة رستم للتصوير الفوتوغرافي" في منطقة كارشياكا بإزمير، حيث لا يزال المهجَّرون من الجيل الثالث والرابع يجدون أنفسهم في هذه الصور، وبالطبع يتقاسمون مشاعر مشتركة.
الثقافات المتواشجة والمشتركة وحياة من عاشوا معاً لقرون، رغم كل ما جرى، لا يمكن فصلها عن بعضها البعض؛ فأصحابها ما زالوا يُغنّون بألحان وكلمات متقاربة، ويبدون متشابهين عندما يرقصون. يشربون العرَق التركي على جانب من بحر إيجة، وعلى الجانب الآخر، يشربون الأوزو (العرَق اليوناني). كلاهما يحبّ السمك، وأشجارُ الزيتون تكللّ طرفَي بحر إيجه. وفي هذه اللحظات بالتحديد، تسمع من يقول "إنّكم مختلفون جدّاً ولا يشبه بعضكم بعضاً".
لا تؤاخذوني، كلُّ هذا لا معنى له. "نفس القصّة القديمة" تعود باستمرار، وهكذا دواليك.
* صحافي وشاعر تركي، والمادة خاصة بـ"العربي الجديد".
** ترجمة عن التركية: عمر أبو سمرة