رغم حداثة ظهوره، استطاع البودكاست فرض نفسه، خلال سنوات قليلة، كشكل واسع الحضور من أشكال الإعلام في أيامنا هذه. ويبدو هذا الانتشار مُفارِقاً، بمعنى ما، للّحظة التي نعيشها، والتي لا تزال تنتمي إلى "عصر الصورة"، هذه الصورة التي تستحوذ على ثقة وسائل الإعلام الكُبرى، وعلى ثقة صانعي الإعلانات، بل وحتى الكثير من المشتغلين في الحقل الثقافي، والذين يخشون "ضياع" أثر أعمالهم (مثل المسرحيات والأغاني) لو لم تُحفَظ منها نسخة مُصوَّرة.
وربما تكون هذه المفارقة هي السبب الأساسي وراء صعود البودكاست، الذي يأتي كوسيلة ومُلجأ أكثر هدوءاً وتقشُّفاً للاطّلاع على أحوال العالَم أو للتذوّق الثقافي، في ظل التخمة والفائض من الصور ومقاطع الفيديو والبث المباشر، وفي ظلّ ثقافة تطلب المزيد والمزيد من التواصل.
قبل أيّام، كرّمت منظّمة "اليونسكو" الباحثة التونسية الفرنسية هاجر بن بوبكر بـ"جائزة اليونسكو ـ الشارقة للثقافة العربية"، وذلك عن بودكاستها Vintage Arab، الذي أطلقته عام 2018 على أكثر من منصّة استماع على شبكة الإنترنت، والذي يُعدّ واحداً من أبرز البودكاستات باللغة الفرنسية حول الموسيقى والغناء العربيَّين. وإذا كان من المفاجئ حصولُ المشروع على هذه الجائزة لناحية عدم نشر بن بوبكر أيّة حلقة فيه منذ عام 2021، فإن محتوى "فينتاج عرب" يبقى مُقنعاً بتطلُّبه وبمحتواه الجادّ، الذي تبدو حلقاته ثمرةً لجهد بحثيّ وتحقيقيّ، وتمحيص في الأرشيفات، ضمن قراءة سوسيو-تاريخية للموسيقى العربية.
تتناول في حلقاتها أسماء مثل عمر خورشيد وشيخة ريميتي وفريد الأطرش
قدّمت بن بوبكر، خلال أعوامٍ ثلاثة، سبعاً وعشرين حلقة، بدأتها مع زياد الرحباني، الذي تستعيد تجربته منذ صِباه كـ"عبقريّ صغير تساوى في شخصيته الإبداعُ مع إثارة الجدل"، شارحةً ذهابه أبعد من الإرث العائلي الذي وجده أمامه عند ولادته، ودور الثقافة، والبُعد اليساري، في تلقّي أعماله. بعد ذلك انتقلت الباحثة المختصّة بالتاريخ إلى واحد من المواضيع التي ستكون لها الحصّة الأكبر من برنامجها: الموسيقى المغاربية، وعلاقة المُهاجرين التونسيين والجزائريين والمغربيين في فرنسا بها.
"وُلد هذا المشروع من رغبة في التشارك بيننا نحن، وهذه الـ"نحنُ" عربية. إنه تشارُكٌ يأتي من عربية إلى جمهور عربي. ليست ثمة إرادة تعليمية، بل رغبة في مشاركة شيء وجداني مع أشخاص ينتمون إلى نفس التراث الثقافي الذي أنتمي إليه"، تقول الباحثة التونسية في تعريف برنامجها في مطلع الحلقة الأُولى.
وتركيزها على الوجداني هنا سيبدو جليّاً في النحو الذي ستبني من خلاله العديد من الحلقات، التي تتوجَّه في واحدة منها إلى والدها الذي هاجر من تونس إلى فرنسا، بينما تتشارك في واحدة أُخرى الحديث والنقاش مع والدتها، التي تتحدّث عن حبّها لغناء عبد الحليم واكتشافها له في صباها. شغفٌ تتقاسمه أيضاً مع مستمعيها حول العديد من الموضوعات والأسماء، من موسيقى عمر خورشيد إلى الغناء الصوفي في تونس، ومن تاريخ الغناء في العراق إلى "عرّابة الراي" الجزائرية سعدية باضيف، المعروفة باسمها الفنّي: شيخة ريميتي، مروراً بفريد الأطرش والشاب حسني وغيرهم من الأسماء الغنائية.