حين يردّد المثل الشعبي أن المكتوب يُقرأ من عنوانه (وقد استُعير هنا ظرفُ الرسالة، الذي كان يحمل عنوان المرسِل والمرسَل إليه) فهو يشير إلى التعبير عن فكرة المعرفة الفطرية القائمة على الحدس والتخمين. والظاهر أن هذه الفكرة قد استطاعت أن ترسخ في العقل العام إلى حد أنها تكاد تصبح شكلاً للمعرفة السائدة اليوم، التي تكتفي بالعنوان، وتستخرج منه الدلالات التي تريدها، وتستند إليها.
ومن اللافت أن يذهب كاتب مثل كريستيان غراتالو إلى مثل هذه النتيجة في كتابه "هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أُخرى؟"، كي يقول إن مَرَدّ نجاح كتاب مثل "نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما هو عنوانه، وهذا يعني تالياً أن الكتاب لم يُقرأ، بينما لا يستأهل الكتاب، في رأيه، سوى السخرية.
والحقيقة أن هذا العنوان كان مثيراً وصادماً، خصوصاً أن الكتاب صدر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإعلان الولايات المتحدة الأميركية عن نفسها قطباً وحيداً يسعى إلى عولمة الكوكب تحت رعايته. وهو لا يعلن أن التاريخ قد توقف أو انتهى عند تلك اللحظة المفصلية في تاريخ العالم، كما هو شائع عن محتواه، بسبب قراءة العنوان فقط، بل يؤكد انتصار الليبرالية وحدها في التاريخ، كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي بعد فشل المشاريع الكبرى التي حاولت منافستها في المصير البشري.
ثمة كتب تصبح ضحية لعناوينها الجذابة، مثل "نظام التفاهة" لآلان دونو
ومع أن معظم النتائج التي أراد أن يعممها على التاريخ البشري قد أثبت "التاريخ" قصورها وعجزها وعدم قابليتها للحياة، فإن العنوان ظلّ مُغرياً في الاستخدام المحلّي، حيث تصبح عبارة "نهاية التاريخ" مادة مجردة من حقائق التاريخ، ويستخدمها كثير من أولئك الذين اعتقدوا أن هزيمة نظام مثل النظام السوفييتي تعني الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي.
ولكنّ العنوان الأكثر إثارة وانتشاراً، اليوم، إنما هو "نظام التفاهة" للكندي آلان دونو. والعنوان مثير جداً، ويمكن اعتباره واحداً من أكثر العناوين جذباً للقراءة، ومع ذلك فإن الكتاب يُعتبَر ـ بحسب ما سمعت ورأيت ـ من الكتب غير المقروءة، وربما أضحى ضحيّة عنوانه. وهناك الآلاف من الذين استعاروا العنوان دون أن يقرأوا الكتاب، خصوصاً أنه يتحدث عن نظام تحكمه آلة الرأسمالية المعقدة، كما يشير إلى قوى التحكّم التي باتت تجعل البشر في خلفية اتخاذ القرارات.
والتفاهة التي يشير إليها لا يعرفها القارئ العربي، ولكنّ القراء العرب أُغرِموا بالعنوان، والأسباب شديدة الوضوح، وتتلخص في إحساس الإنسان العربي بالخيبة والخسارة أو بالهزيمة في جميع المعارك التي خاضها من أجل تغيير حياته.
وبات بوسع أحدهم أن يستعيره كي يدبّج مقالة في التفاهة التي تحيط بالأوضاع العربية اليوم، دون أن يقرأ الكتاب. والطريف في الموضوع أن بعض مناصري الكتاب ينفّذون حرفياً برنامج الاستسهال الذي ينتقده دونو، وأخطر ما في ذلك أنه يحاول أن يعيد للمثقف دوره التنويري الذي تفتقده بلاده، بينما نرى هنا، في العربية، احتقاراً له، يساراً ويميناً، ومديحاً لدور الخبير الذي يمثل نظام التفاهة في نظر دونو. كأن القراءة هنا لا تستطيع حتى أن تدرك العناوين.
* روائي من سورية