وثائق الوقف مصدراً لتصحيح التاريخ: حالة مصر قبل 1952 وبعده

08 سبتمبر 2023
عمّال على سقالات ينظفون الواجهة المرمرية لجامع محمد علي في القاهرة، 1997(Getty)
+ الخط -

حتى منتصف القرن العشرين، كان التعاطي مع الوقف ينحصر في الكتب الصّفراء، التي جعلت استيعاب مُفردات الوقف وأحواله مقتصراً على فئة محدودة، كما انحصر تدريسُه في قسم أو كلية بعينها (الشريعة). وهي الفترة التي بدأت الانقلابات العسكرية، بدءاً مع حسني الزعيم عام 1949، وجمال عبد الناصر عام 1952 (المُعجبين بـ مصطفى كمال أتاتورك)، تهزّ المؤسسة التقليدية المتوارثة، وتشمل الأوقاف ضمن "الإصلاحات" لصالح العهد الجديد هنا وهناك. 

ولكن في الثُّلث الأخير للقرن العشرين، دخل هذا المجال باحثون من مجالات عِلمية (التاريخ، والقانون، والعلوم السياسية، والاجتماعية)، أعادوا الاعتبار للوقف ودوره في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع انتشار مفاهيم "المجال العام"، و"المجتمع المدني"، واكتشاف تجارب الوقف المعاصر سواء في بعض المجتمعات المُسلمة الأُخرى، أو في المجتمعات الغربية. وقد انعكس هذا التطوّر في سلسلة من الندوات والمؤتمرات، وفي سلسلة من المؤلّفات التي أعادت الاعتبار لـ الوقف ودوره في المجتمع، والتي مَهّدت كلّها لتغيُّرات مفاهمية ومؤسسية في دول الخليج (التي بدأت في الكويت وأثمرت لاحقاً في السعودية وغيرها)، جعلت الوقف، اليوم، يلعب دوراً مُتزايداً في تمويل الجامعات مثلاً، كما هو الأمر مع الجامعات الأميركية.

إعادةُ اعتبار دور الوقف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية

في هذا السياق، يبرز اسم الأكاديمي المصري إبراهيم البيومي غانم، أستاذ العلوم السياسية في "المركز القومي للبحوث الاجتماعية" بمصر، الذي كان له إسهامُه في المجال المؤسّسي (مستشاراً أكاديمياً لـ"الأمانة العامة للأوقاف" في الكويت، التي كانت رائدة في هذا المجال)، وفي المجال البحثي بدراساته المختلفة التي ساهمت في إعادة الاعتبار للوقف، ودوره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بعد نشر رسالته للدكتوراه "الأوقاف والسياسة في مصر"، و"نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي"، و"الأوقاف والتعليم العالي وبناء مجتمع المعرفة"، و"أوقاف أُسرة محمد علي باشا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر"، وصولاً إلى كتابه الأخير "جميع أوقاف الباشا: ملف وثائقي تاريخي" الذي صدر مؤخّراً عن "الدار المغربية"، و"دار الكلمة" في القاهرة.


خصوصية مصر

وفي الواقع إنّ مصر لها خصوصية في ما يتعلّق بالأوقاف، حيث تأسّس فيها أول ديوان للأوقاف أو "الأحباس"، على يد القاضي توبة بن نمر بين عامَي 733 و738م، دلالة على كثرتها وضرورة تنظيمها، كما كانت أول دولة في المنطقة تشهد تحوُّل "ديوان عموم الأوقاف" إلى وزارة في 1913، وأول دولة "تثوّر" هذه الوزارة بعد 1952، بما قامت به من دمج للأوقاف وصرف ريعها على غير ما نصّت عليه حجُج الأوقاف وتجعلها في خدمة النظام الجديد، وهو ما تناوله في رسالته للدكتوراه "الأوقاف والسياسة في مصر" (1998). 

يُضيء العوامل السياسية المؤثّرة بتاريخ هذه المؤسسة

وفي هذا السياق كان البحث التاريخي مع هذه الموجة الجديدة، قد أخذ يكتشف أهمية الحجج الوقفية، كمصدر من مصادر التاريخ العمراني والاقتصادي والاجتماعي، ومن ذلك كتاب المؤرّخ محمد عفيفي "الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني" (1991)، بينما تابع إبراهيم غانم بمقاربة أُخرى (تسييس التاريخ)، الفترة اللاحقة بكتابه "أوقاف أسرة محمد علي باشا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر" (2021)، وصولاً إلى كتابه الأخير "جميع أوقاف الباشا".

والمقصود هنا بـ"تسييس التاريخ"، ما تعرّضت له الكتب المدرسية في مصر من تغيُّر كبير بعد 1952، لإضفاء الشرعية على النظام الجديد في مصر الذي جاء بانقلاب عسكري، وذلك بتقديم سرديّة مختلفة عن حُكم أسرة محمد علي وأحفاده، والذي دام قرناً ونصف القرن تقريباً، حتى في ما يتعلّق بالأوقاف. ومن المعروف أنّ السُّلالات الحاكمة في مصر منذ الدولة الأيوبية اعتمدت على الأوقاف (سواء الصحيحة التي تقوم على وقف الأفراد من ثروتهم الخاصة، أو "غير الصحيحة" التي تقوم على وقف السلاطين من بيت المال)، لدعم شرعية الحاكم الجديد. 

غلاف الكتاب

ولكنّ الأمر اختلف في ما يتعلّق بأوقاف أسرة محمد علي، سواء في ما يتعلّق بحجمها ودورها الاقتصادي والاجتماعي في مصر وخارجها، أو بموقف النظام الجديد منها بعد 1952، وهو الأمر الذي بدأه المستشار طارق البِشْري (المعلّم الروحي لإبراهيم غانم)، بكتابه "محمد علي ونظام حكمه" (2013)، وأتمّه إبراهيم غانم بكتابَيه الأخيرين "أوقاف أسرة محمد علي باشا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر"، و"جميع أوقاف الباشا".

يتألّف كتاب "جميع أوقاف الباشا" من قسمَين متكاملين: المقدمة، أو الدراسة الطويلة التي فاقَت ثلاثين صفحة، وتعرّض فيها إلى "تسييس التاريخ" من خلال تجربته الشخصية، والقسم الثاني التوثيقي الذي يرتبط بالعنوان حيث قدَّم فيه لأول مرّة كلّ الحجج الوقفية التي تُوضّح ما أوقفه محمد علي وما أضافه أحفادُه إليها.


تسييس التاريخ: من المدرسة إلى الجامعة

أمّا في ما يتعلّق بالقسم الأول، وربما يبدو الأهم هنا، فهو يستعرض فيه تجربته الشخصية، التي نقلته من ضفّة إلى أُخرى، منذ أن كان تلميذاً إلى أن بدأ في العمل برسالة الدكتوراه. فالمؤلّف (ولد عام 1959) ينتمي إلى الجيل الذي تعلّم حسب الكُتب المدرسية الجديدة أن "وجه مصر المُضيء سطع في 23 تموز/ يوليو 1952، وأنّ ما قبل ذلك كان أكثره فساداً في فساد وظلاماً في ظلام". 

استكمال لمشروع تأريخي يربط الأوقاف بالمعرفة والسياسة

ولم يقتصر الأمر على الكتب المدرسية فقط، بل شمل الكتب الجامعية ومؤلّفيها من المؤرّخين الجُدد، الذين انساقوا وأشاعوا أنّ محمد علي "استولى على جميع مُمتلكات الأوقاف، بما فيها أوقاف الأزهر الشريف والمساجد، وقام بضمّها لأملاك الدولة"، وأنه "أول حاكم مُسلم يجرؤ على حرمة الأوقاف الإسلامية ويضمّها إلى أوقاف الدولة"، إلخ. ولكن الأمر اختلف حين بدأ في البحث لإنجاز رسالته للدكتوراه وتبلوَر أكثر مع الكتاب الأخير. ففي هذه الدراسة المطوَّلة يتقصّى فيها مصادر أساتذته من المؤرِّخين الذين أشاعوا هذه الصورة، ويتقصّى بنفسه ما قاله الجبرتي المُعاصر لزمن محمد علي، ويفسّره بشكل مختلف، كما أنّ أوقاف محمد علي وأولاده وأحفاده تشهد بعكس ذلك.

ويبدو ذلك مُحيِّراً لمن يَرون الحداثة التي اقتفاها محمد علي في بناء مشروعه، للنهوض بمصر كقوّة إقليمية، كأنها تتعارض مع اهتمامه بالأوقاف. ولكنّ غانم يرى هنا أنّ اهتمام محمد علي بالأوقاف جاء نتيجة للفساد الكبير الذي لحق بها، ومحاولة لتأطيرها بعد إصلاحها ضمن مؤسسات الدولة الحديثة. ولذلك قام عام 1835 بتأسيس "ديوان الأوقاف"، إلى جانب "ديوان "المدارس"، و"ديوان الجهادية"، و"ديوان البحر"، و"ديوان التجارة"، و"ديوان الفابريقات"، التي تحوّلت لاحقاً إلى وزارات. أما في ما يتعلّق بالفساد في إدارة الأوقاف فقد شاع هذا على يدِ المُتولّين في مصر وغيرها، وأدّى إلى خراب الكثير من المنشآت التي كانت وقفاً لتوفير خدمات اجتماعية متنوعة. 

مقاربة مختلفة عمّا قال به مؤرّخو الجيل المدرسي بعد 1952

ومن هنا فقد أصدر مُفتي مصر الشيخ محمد الجزائرلي عام 1846 "فتوى جواز منع الوقف"، بناءً لسؤال وصَلَ إليه من محمد علي عن جواز ذلك "سدّاً على ما غلب على العامة من التوصّل به لأغراض فاسدة، من حرمان بعض الورثة، والمُماطلة بالديون"، أي أنّ المنع يشمل هذه الأوقاف التي أسّسها أصحابُها لغايات شخصية وليس للنفع العام. وبالاستناد إلى ذلك يرى غانم أنّ هدف محمد علي من إعادة تنظيم الأوقاف كان "تجديد مستنداتها ثم تجديد البُنية الاقتصادية والمؤسسية والوظيفية للأوقاف فأضاف إليها ولم ينقص منها"، وينتهي إلى أنّه مع "اكتشاف ونشر جميع حجج الأوقاف التي أنشأها محمد علي نفسه، يتجلّى الموقف الحقيقي للباشا أكثر وأكثر"، و"هي مادّة جديدة تُعدّل في ما شاع واستقرّ لدى مؤرّخي مصر الحديثة والمعاصرة بشأن موقف محمد علي بصفة عامة".


أوقاف مصرية تمتدّ حتى اليونان

أما القسم الثاني من الكتاب الذي يحوي الجانب التوثيقي فهو يتضمّن جميع ما أوقفه الباشا، وما أضافه أحفادُه إليها، في مصر وخارجها: خمس حجج لمحمد علي تمتدّ من 1813 إلى 1844، وخمس حجج للأحفاد تمتدّ من 1889 إلى 1912. والمهمّ هنا، وهو ما وجب التركيز عليه، أنّ هذه الأوقاف كان تعكس الحدود التي وصل إليها مشروع محمد علي: من بحر إيجة في الشمال إلى الحجاز في الجنوب. فقد كان أكبر ما أنشأه محمد علي مجمّعاً ضخماً في مسقط رأسه "قوَلَه" (أو كفالا Kavala  الحالية في اليونان)، يحتوي على مدرسة ومكتبة وجامع، وعمارتين أو تكيّتين لتقديم الوجبات المجّانية في مكّة والمدينة لـ"الفقراء والمساكين وقاصدي الحجّ".

وفي الحقيقة إنّ الحجّة الأولى الواردة في الكتاب هي عبارة عن فرمان صادر في 27 ربيع الأول 1227هـ/ 1813م، من السلطان محمود الثاني لضمّ جزيرة طاشيوز أو ثاشوس Thasos (380 كم)، إلى ممتلكات الباشا تقديراً منه للخدمات التي قدّمها له محمد باشا في الحجاز. ويبدو في هذه الحالة، حسب رأيِي، ذكاءُ محمد علي وبعدُ نظره في حدود مشروعه الذي لم يتحقّق. فقد نقل إلى السلطان رغبته في إنشاء وقف كبير في مسقط رأسه "قَوَله"، وهو يحتاج لذلك إلى جزيرة طاشيوز التي  تُقابل مدينة قَوَله، لكي يصرف من ريع ضرائبها على هذا الوقف. ولذلك ورد في هذه الحجّة أنّ تمليك هذه الجزيرة الغنيّة لمحمد علي جاء لكونه "ميالاً للخيرات وإجراء المبرّات"، وبالتحديد لـ"تنظيم الوقف الذي عقد النِّيّة على إنشائه". 

عودة إلى كتابات الجبرتي ومصادر أُخرى من زمن محمد علي

ولكن محمد علي أنجز في الواقع "ضربة معلم"، لأنه بإنشاء هذه الوقف الكبير في مسقط رأسه قوَله، ضمن وجوداً له في البلقان سوف يستثمره لاحقاً، كما أنه بضمّ هذه الجزيرة إلى مُمتلكاته اتّسعت حدودُ مصر إلى بحر إيجة، وبقيت جزيرة طاشيوز تابعة لمصر حتى 1908، حين أعاد نظام الاتحاد والترقي السيطرة عليها، ولكنّ الجانب الوقفي في قَوَله والجزيرة بقي تابعاً لديوان الأوقاف في مصر، حتى بعد ضم اليونان لقَوَله والجزيرة بعد حرب البلقان 1912 - 1913، وبقي كذلك حتى عام 1952. 

ولكنّ السنوات اللاحقة - التي شهدت تقارباً في العلاقات السياسية بين اليونان ومصر - شهدت تراخي مصر في حقوقها الوقفية في قوَلَه وجزيرة طاشيوز، وانتهى الأمر خلال 1984 - 1986 بتنازل "هيئة الأوقاف المصرية" عن أربع قطع من الأراضي التابعة لـ"وقف قوَله"، اثنتان منها في مدينة قوَله، واثنتان في جزيرة طاشيوز، وبيع 14 عقاراً بتقسيط تسديد أثمانها مع تسوية مسألة التعويضات المستحقّة لليونانيّين الذين غادروا مصر إثر تأميم مُمتلكاتهم في ستينيات القرن الماضي، وهو ما كان تعرّض له غانم في لقاء متلفز بُثّ في مثل هذه الأيام عام 2016، وكان يجدر أن يكون مُلحقاً للكتاب يبيّن ما آل إليه الحال.

كتاب غانم يبدو بعنوانه أنه ضمن مجال البحث في الأوقاف التي ترتبط في الذهن بمجال مُحدّد، ولكنّ مضمونه يمسُّ قضايا حسّاسة لها علاقة بتسييس التاريخ وتهاوُن مصر ما بعد 1952، في الممتلكات الوقفية المُهمّة خارج حدودها الحالية التي ورثتها من حقبة محمد علي باشا وأحفاده.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون