عادةً ما تؤرِّخ الشعوب بالأحداث الكبيرة، تلك التي تحوز إجماعاً وطنياً، وتكون محطَّ تقييم حسَنٍ لدى عدّة أطراف. لكنّ حال السودانيّين اليوم - والحرب قد استبدّت ببلادهم - يُحيل إلى حدَث مُفجِع، قطَع مع لحظة حيازتهم السياسة، وتخليصها من بين أيدي الاستبداد عام 2019.
لذا حتى الروزنامة الثقافية في البلاد، باتت تتردّد فيها أقوال مثل: "قبل الحرب بأيام"، أو لولا الحرب لكانتِ التظاهرة الفُلانية قد رأت النور". وهذا ما ينطبق على فيلم "وداعاً جوليا"، الذي أُعلِن عن مشاركته في "مهرجان كانّ السينمائي" لهذا العام (ضمن مسابقة "نظرة ما")، قبل اندلاع الحرب بين "قوات الدعم السريع" والجيش بيوم واحد فقط، أي في الثالث عشر من نيسان/ إبريل الماضي.
النساء صانعات سلام والحربُ في جوهرها يؤجّجها العنف الذكوري
ثنائية الحرب والسلام حاضرة في العمل الذي أخرجه محمد كردفاني. مع ذلك فإنّ عبارة "جاء في الوقت المناسب"، للتدليل على ملاءمة أجوائه للحرب الراهنة، ستكون مُضِرَّة بالفيلم نفسه قبل أيّ شيء آخر. ويُمكن تفسير هذا الإلحاح على مثل تلك الثنائية (الحرب والسلام)، في خلفية الإنتاجات السودانية البصرية، إلى طول تلازُم وتأثُّر بين الصانعين وبيئتهم، حيث لا شيء يكسر هذه الحلقة المُفرَغة من سرديات القتال، سوى اختلاف طبعة وعنوان الحرب ذاتها؛ فمرّة بين الشمال والجنوب، وأُخرى تنقلب فيها الجهات بمُسمّيات وأدوار جديدة.
يروي الشريط قصّة امرأتين: منى (إيمان يوسف)، وجوليا (سيران رياق)؛ ومن وراء هذه الحكاية التي تجمعهما، كسيّدتين تنتمي كلُّ واحدة منهما إلى جهة من جهات البلاد المُتحارِبة، تبدو لنا خلفية سياسية عن تاريخ السودان بين عامَي 2005 و2011، وهي الفترة التي بلغت طموحات الوحدة فيها بين الشمال والجنوب أوجَها عام 2005، قبل أن ينهار كلّ شيء ويُصار إلى الاستفتاء وتقرير الانفصال عام 2011. ورغم أنّ العمل بيّنَ اقتراب منى من جوليا بطريقة لا تخلو من إحساس بالذّنب، وبالتالي أخذ هذا التقرُّب منحىً تطهُّرياً في لاشعور الأُولى، إلّا أّنه احتفظ بطرح مقاربة مُركَّبة، ونظَرَ عن كثب إلى حدود الخير والشرّ المُتداخلة في النفْس الإنسانية.
صُوِّرت مشاهد الفيلم (120 د)، بين الخرطوم ومدينة كوستي، جنوبي البلاد، واستغرق إنتاجُه مدّة ثلاث سنوات، كما أنّ بعض لقطاته أُخِذت من تظاهرات الأعوام السابقة. وإلى جانب موضوع الشريط المحبوك بطريقة جذّابة، يمكنُ الحديث أيضاً عن المستوى البصري، حيث ذهب كردفاني بعدسته صوب تقطيعات جمالية، تتوازى مع الطريقة التي عبّرت بها كلٌّ من إيمان وجوليا عن حالتهما الشعورية. من جهة أُخرى، يستحضر الفيلم فكرة أنّ النساء صانعات سلام، وأنّ الحرب في جوهرها يؤجِّجها العنف الذكوري، وعلى أهمية هذا الطرح وصوابيّته، إلّا أنه يستوعب، أيضاً، شيئاً من "وصفات النجاح" في التظاهرات الغربية، وما تحدّده هذه الأخيرة من معايير استقبال الضيوف و"الآخَرين".
أخيراً، وحتى لا نُحمّل العمل أكثر ممّا يحتمل، فإنّ "وداعاً جوليا" يطرح سؤالاً جادّاً عن مصير السينما وشروط الإنتاج الفنّي والثقافي في السودان، مع استمرار القتال وتعميم الخراب.