شاعت في السّنوات الأخيرة ورش الكتابة الأدبيّة بما هي اجتماعٌ لبعض النّاشئين والناشئات من الكتّاب تحت إشراف "أديب"، بغرض توجيههم في مسالك الإبداع ومساعدتهم على إتقان آليّات الكتابة وبناء الكون الرمزيّ للقصّة أو الرّواية بما تنطوي عليه من حبكة وتفاعل شخصيّات واختيار لسجلاّت القول وصيغ الخطاب السرديّ وسائر أدوات الحَكْي. وتدور هذه الجلسات على قراءة نصوص هؤلاء النّاشئين لبيان أوجه القصور فيها وإسداء النّصائح لتلافيها.
ورغم شيوع هذه الورش التي يُطلق عليها: "مُحْتَرَفات الكتابة" في عالمنا العربيّ، فإنّها لا تزال تثير جدلاً واسعًا لدى النقّاد حول حقيقة الدّور الذي تؤدّيه في إنضاج التجربة الأدبيّة، مما يشرّع التساؤل عن مبادئها الضمنيّة وطُرق عملها ودورها في انسياب منابع الابتكار أو على العكس تجفيفها.
وللتذكير، تعود جذور هذه الظاهرة إلى ثلاثينات القرن الماضي بالولايات المتّحدة الأميركيّة. وفي الستّينات، انتقلت منها إلى فرنسا حيث ترابط ظهورها بنضج النّظريّات الألسنيّة والأدبيّة التي سادت وقتها. وقد عبّرت أعمالها، تحت إشراف كتّاب كبار مثل كلوديت أوريول بوير (1941-2015)، عن رفض أوليّة المدلول وجوهرانيّة المعنى دفاعًا عن ضرورة الاشتغال على الدّال، أيْ على النصّ تحويرًا وتلاعبًا عبر فرض قيود شكليّة، حسب ما بيّنته الباحثة الفرنسيّة ميشال مونت في دراساتها (2018).
وأمّا في العالم العربيّ، فقد فرضت هذه الورش نفسَها خلال العقديْن الماضِيَين التي أشرف عليها مجموعة من الكتّاب العرب، حيث طُرحت فيها أسئلة الطبيعة العميقة للإبداع ومسارات الكتابة ومكانة الكاتب ضمن نسيجه الاجتماعي.
الإبداع ظاهرة أعقد من المشاركة في ورشة من عدمها
فمن جهة أولى، يرى بعض النقّاد أنّ لهذه الورش مزيّة الكشف عن المواهب الواعدة لأفراد ما كانوا ليستمرّوا في الكتابة لولا النّصائح المُسداة إليهم خلال هذه الجلسات التي تندرج في إطار الدّربة والتّمرين الضروريَيْن لصقل الموهبة، مع الإيمان بأنّها ليست شرطًا أساسيّا في النّبوغ ولا في الكتابة بما هي "ألم" لدى البعض وتلاعب بالكلمات ومُخاتلة لدى الآخرين.
كما تمثّل هذه الورش اليوم إحدى مظاهر الحيويّة الثقافيّة النادرة في مجتمعاتنا العربيّة، ففيها يلتقي أدباء "مخضرمون" مع كتّاب ناشئين من أجل مساعدتهم في تجريب أساليب الكتابة واستعراض آلياتها المختلفة في إطار عملٍ واعٍ على دوال النصّ باعتباره بناءً يولد من رحم التفكير والنّقاش حول كل ما يتضمن من اختيارات وليس "وحيًا" تتلقاه العبقرية الفرديّة أو تُلهمه آلهة الجمال. وهي بذلك توفّر الوقت للجيل الصّاعد بالتنبيه على الأخطاء التحريريّة التي عليه تجنّبها حتى لا تكون البداياتُ هزيلة، مع القناعة بأنّها ليست العامل الوحيد في تنمية المواهب التي تتطلّب جهودًا فرديّة واطّلاعا دؤوبًا على مناهج الكتابة العالميّة وأحدث آليات سردها.
وفي المقابل، يرى منتقدو هذه الظاهرة أنّ الورشة بما هي شكل أوليّ من التلقّي وإبداء ردود الفعل تحمل قدرًا من الانطباعيّة وتعكس ضغوط اللحظة الرّاهنة وتوجّهاتها فضلاً عن تأثّرها كهيكل تنظيميّ بمواقف السّلطة التي تصدر عنها فتعبّر عن مواقفها. هي لحظة "تسلّط" ينصبّ خلالها النقد على آثار اليانعين فتطبّق عليهم مقاييس المُنظّم وأذواقه. بهذا المعنى، هي لحظة عنف يُمارس على عناصر النصّ لإعادة تركيبه وإعطائه وجهةً جديدة، وهو ما يحوّر نظامه الداخلي ويحوّل مساره، ضد حريّة الخيال واندفاعه.
كما تخضع ضرورةً إلى التيّارات التي ينتمي إليه المشرف فيفرضها مواقفَ قد تخنق هؤلاء الناشئين وتحدّ من مدارات حساسيتهم عبر الترويج لمدرسة ما أو الانطلاق من معايير جماليّة سائدة في حقبة من الحِقب. فقد يطرح عليهم أسئلة لا صلة لها بجذوة الإبداع، تعكس أكثر اختياراتٍ فكريّة سابقة عن الكتابة وخارجة أصلًا عن حقلها.
الفنّ غرابةٌ وإغراب، مفاجأة القارئ وهزّ دائم لآفاق تلقّيه
ومن الأمثلة الدالة على حساسيّة هذا التدخّل اختيار سجلّ القول وطبيعة الوحدات المعجميّة وهل تُفضّل الكلمات الآتية من اللهجات المحكيّة أم من الفصحى، ثمّ كيف تحدّد معانيها وطبيعتها وموقعها بين العريق والحديث، المُهذّب والبذيء، والدّخيل والأصيل. فخيارات المعجم تُثير لوحدها من المعضلات ما تعجز عن حلّه جلسات عدّة.
ويجب ألاّ نغفل أنّ تنظيم الورش كثيرًا ما يتمّ تحت إشراف وزارة الثقافة والتعليم أو بعض مصالحهما الرسميّة، مثل المعاهد والجامعات والجمعيّات. وقد تتّخذ من هذه اللقاءات ذريعة لتمجيد النظام القائم وتكرير محتويات الثّقافة الاستسلاميّة السّائدة، وهو ما يجعل منها مجرّد أداة طيّعة، كبقيّة أدوات السّلطة، لممارسة عنفها الرمزي وفرض خطّ تحريريّ يلائمها، وهو ما يخنق روحَ التمرّد لدى اليانعين ويضعه في قوالب جاهزة تذعن للسّلطة السياسيّة والاجتماعيّة وتصير ناطقة بلسانها، كما كان الحال قبل الرّبيع العربيّ.
وفي بعض الأحيان، تُصبح هذه الورش مجرّد أداة لجني المال السهل وتحقيق الشّهرة واستجلاب الأسماء اللامعة دون الاهتمام فعلاً بالبراعم الناشئة ومشاكل الكتابة. بل قد تتحوّل إلى حقل عقيم من الجدالات والمماحكات التي لا يستفيد منها أحد بسبب غياب النّسق الفكريّ الذي من المفترض أن يصدر عنه المشرف، فهو غالبًا ما يستقي معلوماته لا من قراءاتٍ نظريّة معمّقة، بل من كتب ومواقع متناقضة فيأتي بمضامين هجينة متهافتة.
وفي كلّ الأحوال، يشير تكاثر هذه الورش في الدول العربيّة إلى خروج النّشاط الأدبيّ من سياق الفرديّة المنعزلة وإلى تحوّل الكتابة من تجربة ذاتيّة إلى اشتغال مركّز على بنية النصّ بما هو علاقات شكليّة تنعقد بين العلامات وذاكراتها في حوار النّصوص والأجناس والواقع. ويظلّ الإبداع ظاهرة أعقد من المشاركة في ورشة من عدمها وأكبر من أن ينحصر في اتّباع توجيهات قَبْليّة. فلئن كانت الورش عاملًا جزئيّا في مسار الفرادة الفنّية، فهي لا ترتقي لأنْ تكون شرطًا للابتكار المرتهن نَسْغه بسلسلة من المتتاليات العِليّة التي يعسر حصرها.
أثبتت أعمال الألمانيّين روبرت ياوس والفيلسوف غادمير، إضافة إلى الناقد الفرنسي رولاند بارت وغيرهم الكثير أنّ الإبداع عُدولٌ عن القوالب الجاهزة وكسر للمُهيمن منها. وهو نتاج تمرّدٍ وتلاعب وخديعة يَرتدّ إلى الذاكرة الغابرة ويَستشرف ما لم يكن، يسير على قواعد حادثة سرعان ما يتجاوزها. هو "خلطة" لا مجال لتوصيفها قبليًّا ولا إقامتها حسب توجيهات عامّة، وربما لا تحتاج أصلاً إلى أيّة هيئة للإعلان عنها، فالفنّ غرابةٌ وإغرابٌ، مفاجأة القارئ بما لم يتعوّد عليه وهزّ دائم لآفاق تلقّيه.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس