الأصدقاء الأعزاء،
قبل 12 سنة كنتُ في بلدكم البرازيل للمشاركة في مهرجان أدبي عُقدت جميع فعالياته في الأحياء التي تسمونها "فافيلاس" ("العشوائيات") في أعالي تلال ريو دي جانيرو. تلك الأحياء، التي قيل لي إنها مكانٌ خطر بعض الشيء، كانت أأمن مكان زرته في حياتي. على مدى أيام المهرجان تجوّلت فيها منفرداً وفي بيوتها البسيطة الكريمة التي دُعيت إلى بعضها شعرتُ أنني في مكان أنتمي إليه. ولعل أجمل تكريم أدبي مُنحته هو ذلك الدَّرَج الذي كتب أطفالٌ من الحيّ على درجاته الطويلة ترجمةَ أبيات قصيدة لي عنوانها "مريم"، ودُعيتُ إلى "تدشينه" بقراءة أحد الأطفال للقصيدة بالبرتغالية. ومريم كما تعرفون هي أُمّ المسيح الذي يُطل تمثاله العملاق "كريستو" بذراعين مفتوحتين على ريو دي جانيرو، "مريم" التي طالما شعرت أن علاقة كلّ شاعر بأُمّه فيها شيء منها، وأن طرف خيط اللغة الذي سيظل ينسج منه مدى العمر هو من هذه المريم، سواء إن حوّل ابنها اللغة إلى خمر أو مُسْمِرَ جسدُه إلى الصليب.
الصبيّ الذي كان "زعيم" المجموعة التي رسمت القصيدة على الدَّرَج والذي قرأ القصيدة في "التدشين"، أخبرني أنه اختارها لأنه شَعَر أن مريم تشبه أُمّه. هذا الولد قد يكون الآن شاعراً أو رساماً، وقد يكون نسي "الضيف" الذي شارك في رسم قصيدته، ولكن ذلك "الضيف" - لم يكن ضيفاً في الحقيقة - لم ينس ذلك المساء والدَّرَج وأبناء إخوته البرازيليين، أي ما يمثّل بالنسبة إليه جوهر الكتابة وجوهر وجوده: الأخوة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان.
وأخيراً، أُحبُّ كثيراً كلمة شكراً في لغتكم: أوبريغادو
لم أكن وقتها قد التقيت بزميلكم الشاعر تشياغو الذي ترجم هذا الكتاب الذي بين أيديكم واختار له عنوان "ولد من حيفا يُرَنْدِح كلمة"، تشياغو الذي لا أنفكُّ أشعرُ أنه من أقدم وأقرب أصدقاء طفولتي. وتشاء الظروف أن يصدر هذا العمل - الذي نبتت بذرته قبل سنوات بعيدة - في ذروة الإبادة التي قتلت حتى الآن قرابة 25 ألف طفل وطفلة وفتى وفتاة وأعاقت وشوّهت عشرات الآلاف منهم بدنياً ونفسياً (الإعاقة التي أعرف أنهم سيتجاوزونها والتشوّهات التي لن تُنقص ذرّة من جمالهم في عيوننا وقلوبنا). الإبادة التي وسَّعها المشروع الاستعماري المسمّى "إسرائيل" إلى لبنان، حيث بدأ موسم قتل الأطفال هناك مع استمراره في فلسطين. موسم يُذكِّر منذ بدأ في غزة بحكاية الملك هيرودوس زمن الإمبراطورية الرومانية الذي قتل جميع المواليد في بيت لحم وجوارها حين تناهت إلى أسماعه النبوءات عن قرب ميلاد المسيح. كانت تلك واحدة من محاولات قتل المستقبل، الفاشلة بالطبع. وهو ما تحاول "إسرائيل" فعله الآن برعاية أميركية وأوروبية مشينة.
لقد كنّا جميعاً ذات يوم أطفالاً وما زلنا قادرين على الصداقة والشِّعر والحلم لأننا - في منطقة ما، هي منطقة الجوهر - ما زلنا أطفالاً، يحتكمون للشعور الأول ولطاقة الحب، لا للأكاذيب التي تفرضها السُّلطة أو الدولة أو الإمبراطورية، وكل ما هو فاسدٌ من حولنا.
الـ "وَلَد من حيفا" الذي كتب هذه القصائد اضطر لمغادرة حيفا مؤقتاً - لأن بيته قريب من المرفأ المعرّض للقصف من صواريخ المقاومة التي تدافع عن الناس في لبنان- وهو في هذا اليوم مختنق الصوت وكئيب، ويشعر بالحزن، حزن الخذلان وهو ينظر إلى ما يجري لأطفال شعبه في غزة ولبنان.
لكني قلت له: مهلاً، لديك اليوم عشرة إخوة برازيليين، شعراء بقلوب لا حدود لاتساعها، يقولون بلغتهم كلمةَ ولدٍ من حيفا وكلمة كل أطفالنا الذين سرقت الإبادة حياتهم وكلامهم وصفاء نظرات عيونهم. قلت له: أطفال غزة سيعودون إلى حيفا ويافا وعكا والناصرة والقدس وإلى كلّ مكان أُبعدَ عنه أجدادهم. قلت له: كلمتنا التي تخنقها أسلحة أنظمة الغرب وفكره الاستعماري القائم على الإبادة؛ بأصوات الشعراء الأحرار، تتجدّد حريتها وليس بالإمكان قصفها بطائرات الموت أو بالصمت. وأخيراً، أُحبُّ كثيراً كلمة شكراً في لغتكم: أوبريغادو.
(رسالة إلى حفل إطلاق كتاب مختارات "ولد من حيفا يُرَنْدِح كلمة" الصادر بترجمة برتغالية -يرافقها الأصل العربي- في البرزايل والبرتغال عن دار نشر Urutau نهاية الشهر الماضي، حفل الإطلاق الذي قرأ فيه عشرة شعراء وشاعرات من البرازيل قصائدَ من المختارات، وهم:
Bianca Madruga, Carlos Orfeu, Clarisse Lyra, Débora Pantaleão, Fabiano Calixto, Marcelo Ariel, Prisca Agustoni, Renata Flávia, Marcelo Reis de Mello, Thiago Ponce de Moraes).