عندما اندلعت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة عام 1861، أرسلت مجلة "هاربر" وينسلو هومر، الذي كان لا يزال فناناً مغموراً، إلى ساحات القتال من أجل رسم الوقائع على الأرض كجزء من تغطية الحرب آنذاك، حيث ظهرت رسوماته الصادمة على صفحات المجلّة.
صوّر الفنان التشكيلي الأميركي (1836 - 1910) القنّاصة الذين كانوا يجلسون فوق الأشجار ويمضون وقتاً طويلاً في مراقبة خصومهم، حيث يصوبون بنادقهم بمنظار تلسكوبي، إلا أن ملامح القنّاصة بدت ملتبسة كما غيره من المتقاتلين، ما أثار اهتمام النقّاد بالقلق والغموض والحيرة على وجوههم.
يُفتتح مساء غدٍ السبت، في "الغاليري الوطني" بلندن، معرض "وينسلو هومر: قوة الطبيعة" ويتواصل حتى الثامن من كانون الثاني/ يناير المقبل، والذي تُعرض فيه مجموعة مختارة من أعمال واحد من أبرز رموز الواقعية في بلاده، عبر توثيقه الحرب الأهلية الأميركية والتمييز العنصري وغيرهما من القضايا الحسّاسة في زمنه.
الفنان المولود في مدينة بوسطن، كان يتعامل مع الصراع الذي اندلع في جنوب بلاده من زاوية الشغف، حيث لم يكن موظفاً رسمياً في المجلة، إنما كان يمتلك استوديو خاصاً به وذهب مدفوعاً لفهم تداعيات الحرب، خاصة على المجتمع في شرائحه المتعدّدة؛ النساء والأطفال والمسنّين والعبيد المحرّرين.
تظهر في اللوحات المعروضة عناصر أساسية تتكرّر في معظم تجربته ممثّلة بمشاهد مستمّدة من الحياة الريفية التي تعتبر وثيقة بصرية مهمة في فهم النصف الثاني من القرن التاسع عشر على امتداد ساحل المحيط الأطلسي وولايات الجنوب خاصة، وكذلك البحار بأمواجها المضطربة وشخصيات البحّارة المتسمة بالقوة والعنف غالباً، وعمليات الإنقاذ البطولية التي جرت خلال الحرب الأهلية للجرحى والسكّان المحلّيين.
يتضمّن المعرض واحداً من أبرز أعمال هومر، والذي يحمل عنوان "تيار الخليج"، وفيه رجل أسود قويّ البنية، وعاري الصدر، ممدّد على سطح قارب دمّرت أشرعته بعد تعرّضه لعاصفة هوجاء؛ حيث يتأرجح القارب في بحر هائج ولا تزال رياح الأعاصير تظهر في يمين اللوحة بينما توجد في المقدمة أربع أسماك قرش تقترب من القارب.
على مدار أكثر من أربعة عقود، لم تلق لوحات هومر استحساناً من قبل الجمهور، أو انتباهاً لدى النقاد، واستمر الحال حتى رحيله، لتنطلق بعد ذلك دراسات متعدّدة حول سرّ لوحته التي سجّلت مرحلة عصيبة من التاريخ الأميركي، من خلال تقديمه صورة عن طبيعة العلاقات بين الشمال وبين الجنوب الذي ضمّ إحدى عشرة ولاية سعت للانفصال حينها بسبب رفضها إلغاء الرقيق، وانتهت بانتصار الشمال وإعادة توحيد الولايات المتحدة التي كان نظامها الفيدرالي مهدداً بالانهيار.
ينظر الدارسون إلى أعمال وينسلو هومر في هذا السياق عبر تصويرها أحوال المجتمع في الجبهة الداخلية؛ والناس البسطاء أثناء القتال، وفي لوحاته العديدة حول الأفارقة الأميركيين الذين تحرّروا، وذكرياتهم حول ماضٍ ارتكب بحقهم العديد من الانتهاكات والجرائم، والطريقة التي عاشوا بها كأحرار. لقد اهتمّ بتوثيق تلك المرحلة، دون أن يعلم أنه سيصبح لاحقاً أحد رموز الولايات المتحدة الوطنية بما تركه من رسومات تحيل إلى مفاهيم التعايش والوحدة والوئام الاجتماعي.